الثلاثاء، 30 يونيو 2009

الفاروق عمر.. أسطورة ديمقراطية



جاء النبي صلي الله عليه وسلم إلي الدنيا بمنهاج فغيرها وشكل رجالا كانوا أساطير في سيرتهم, استمرت القافلة تسير في طريق العدل طوال أربعين عاما بعد الهجرة , ثم انحرفت القافلة أو قل جعلوها تنحرف , وتم تغيير وتبديل.. وفي أيامنا ..نحتاج إلى أن نعود إلى منابع القافلة لنسير معها وفي ركابها مرة أخري.


كانت الطامة الكبري التي أصابت المسلمين في جميع عصورهم هي السياسة , ونظام الحكم , وكان غريبا أن يتقدم مسلمي القرون الوسطي في شتي مجالات الحياة ويتخلفوا سياسيا .. والسبب بسيط فقد أراد حكام بني أمية والعباس أن يستأثروا بالحكم بدعوي أنهم خلفاء للرسول.


وفي السطور القليلة القادمة نقرأ في أيام عمر بن الخطاب أثناء توليه أمور المسلمين, واترك للقارئ الكريم الحكم بنفسه.


في عام 1961 أصدر الكاتب الإسلامي خالد محمد خالد كتابه "بين يدي عمر" في محاولة منه لتأصيل الديموقراطية في الإسلام, محتذيا بنموذج فريد تمثل فى حياة الفاروق، فعرض علينا بأسلوبه الساحر تجربة عمر بن الخطاب في الحكم والتي دامت لعشر سنوات.


ماذا تقول لربك غدا...؟


تمثلت حياة عمر ومنهاجه فى تقواه التى استمدها من مراقبته لله فى كل أفعاله، فكان يضع ربه أمامه فى كل فعلة يفعلها ، و كل لقمة شهية يأكلها, و تتساقط دموعه أمام كل شربة باردة وكل ثوب جديد ..تلك الدموع التي تركت تحت مقلتيه خطين أسودين من فرط بكائه ويصلصل داخل نفسه هذا النذير : "ماذا تقول لربك غدا ؟".


هذا هو جبار الجاهلية وعملاق الإسلام!

هذا هو أمير المؤمنين الذى تفتحت لجيوشه أقطار الدنيا.

ها هو ذا يؤم الناس في الصلاة فيسمع بكاءه أصحاب الصف الأخير.


عمر خليفة


يقول خالد محمد خالد في كتابه: "لقد كانت أغلي أمانيه أن يظل عمر بن الخطاب, لا غير .. فلا هو خليفة ولا هو أمير".

ولقد اقتربت منه الخلافة بعد وفاة النبي, إذ بسط أبو بكر يمينه في اجتماع السقيفة قائلا: هات يدك يا عمر نبايع لك..لكن عمر خلص منها ناجيا, وقال: بل إياك نبايع فأنت أفضل مني.

فقال أبوبكر: "أنت أقوي مني يا عمر".

ورد عليه عمر: "أن قوتي لك مع فضلك" , وسارع وبايع أبوبكر.


وحينما ودع أبوبكر الدنيا, وعهد لعمر بالخلافة .. كان يتقبل مكرها, مع كرهه لها تيقناً منه بأنها مسئولية خطيرة .. ولولا علمه بأنه سيحاسب أمام الله إذا رفض تحمل أمانة المسلمين فى هذا الوقت الحرج لفر منها.

تري كيف قضي تلك السنوات والأشهر الستة والأيام الأربعة التي قضاها خليفة للمسلمين؟ تري كيف قضاها وهو تحت هذا الضغط الشديد من خشية الله سبحانه وتعالي؟

لقد كان يرتجف كعصفور إذا قال له أحد: اتق الله .


وكان يقول رحمه الله: " إذا نمت الليل أضعت نفسي, وإذا نمت النهار ضيعت الرعية", ويسأل كل من يلقاه في لهفه: قل لي بربك ولا تكذبني: كيف تجد عمر...؟ أتحسب الله عني راضيا ..؟ أتراني لم أخن الله ورسوله فيكم؟؟

وإذا غشيته من مظنة التقصير غاشية , صاح صيحة مكتومة : "يا ليت أم عمر لم تلد عمر"!


وعامل عمر نفسه كأنه أحد أفراد الشعب الذي يحكمه, وحين أصاب المسلمين أزمة شديدة في اللحم والسمن؛ أدمن أكل الزيت حتى أن أمعاؤه تئن وتقرقر, فيضع كفه علي بطنه ويقول: أيها البطن لتمرنن علي الزيت ما دام السمن يباع بالأواقي.


مع أهله


اذا تأملنا فى حياة عمر مع أهله وأسرته وجدناه مقدسا للمسئولية , مجلاً لأهله ... ومع ذلك كان لا يحرمهم مما ليس لهم بحق فحسب, بل من حق لهم مشروع خوفا عليهم !

ويحُملهم من المسئوليات أضعاف ما يحمله نظراؤهم من الناس، حتي صار القرب من عمر عبئا يود أصحابه لو استطاعوا منه الفرار.


يدخل يوما دار ابنه عبد الله فيجده يأكل شرائح لحم فيغضب ويقول له :

"ألأنك ابن أمير المؤمنين تأكل لحما, والناس في خصاصة !؟ ألا خبزا وملحا ؟ ألا خبزا وزيتا؟

ويخرج يوما إلى السوق فيري إبلاً سماناً تمتاز عن بقية الإبل بنموها وامتلائها فيسأل: إبل من هذه؟

قالوا: إبل عبد الله بن عمر

فينتفض أمير المؤمنين كـأنما رأى قيامته ويقول:

عبدالله بن عمر؟؟ بخ بخ يا بن أمير المؤميين؟

وأرسل في طلبه وأقبل عبدالله يسعي, وحين وقف بين يدي والده قال له: ما هذه الأبل يا عبدالله؟

فأجاب: أنها إبل هزيلة اشتريتها بمالي وبعثت بها الي المرعي أتاجر فيها

قال عمر في تهكم لاذع: ويقول الناس حين يروُنها ..ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين ..اسقول إبل ابن أمير المؤمنين ..وهكذا تسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين.

ثم صاح به: يا عبد الله بن عمر, خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل, واجعل الربح في بيت مال المسلمين.

وهنا يعلق خالد محمد خالد علي هذه القصة قائلا: يا خالق هذا الإنسان , سبحانك !!!

إن عبدالله لم يأت أمرا نكرا, إنما يستثمر ماله الحلال في تجارة حلال, وهو بدينه فوق كل شبهة, ولكن لأنه بن أمير المؤمنين يحرمه ابوه, مظنة أن تكون بنوته قد هيأت له من الفرص ما لا يتوافر لغيره من الناس.


مسئوليته عن الناس


كان عمر يري نفسه مسئولا مسئولية مباشرة عن كل رجل في سربه..عن كل أمرأة في بيتها ..عن كل طفل رضيع في مهده.. وهو يبدأ مسئوليته تجاه الناس بأن يعيش في أدني مستويات معيشتهم, فاذا دُست عليه لقمة متميزة قال "بئس الوالي إن أنا طعمت طيبها, وتركت للناس عظامها".


وانتقلت هذه المسئولية إلى الأموات, وحينما زار الشام جئ له بطعام طيب, مختلف ألوانه, فدمعت عيناه وقال: كل هذا لنا, وقد مات إخواننا فقراء لا يشبعون من خبز الشعير؟؟


وفي عام الرمادة يسمع عن جماعة في أقصي المدينة قد نزل بهم الضر أكثر من غيرهم, فيحمل فوق ظهره جرابين من دقيق ويحمل خادمه قربة مملوءة بالزيت ثم يهرولان إلى هناك ليحملان النجدة والغوث.. ويطهو عمر بنفسه الطعام حتي يطعموا .


مع الولاة


كان عمر يدقق في اختيار الولاة والعمال, حيث كان يعد نفسه مسئولا عن كل غلطة يرتكبها أحد ولاته علم بها عمر أو لم يعلم.


وكانت أولي خطواته في اختيار الولاة استبعاد كل راغب في المنصب طامح اليه, لأن الذي يحمل شهوة الحكم يحمل شهوة التحكم.. ولضمان تحقيق العدل جعل الحاكم تحت رقابة المحكوم, وكان يحقق بنفسه وعلي الفور فى كل شكوي يشكوها مواطن من حاكم.


وجاء على عمر يوما وفد من مصر, وفيه فتي مكروب يقول له أن محمد بن عمرو بن العاص والي مصر قد أوجعه ضربا لأنه سابقه فسبقه, فعلا ظهره بالسوط وهو يقول خذها أنا ابن الأكرمين..!!

ويرسل أمير المؤمنين يدعو عمرو بن العاص وابنه محمدا, ولندع أنس بن مالك يروي لنا النبأ فيقول: فوالله إنا لجلوس عند عمر وإذا عمرو بن العاص يُقبل في إزار ورداء فجعل عمر يتلفت باحثا عن ابنه محمد فإذا هو خلف ابيه.. فقال: أين المصري؟

قال: هأنذا يا أمير المؤمنين.

قال عمر: خذ الدرة, واضرب بها ابن الأكرمين.

فضربه حتي أثخنه ونحن نشتهي أن يضربه فلم ينزع حتي أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه, وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين.

ثم قال لعمرو بن العاص "يا عمرو, متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا؟

والتفت إلى المصري: انصرف راشدا, فإن رابك ريب فاكتب إلي.


أمانة عمر


كانت القيامة تقوم اذا سمع عمر أن درهما واحدا من الأموال العامة قد اخُتلس أو انُتهب أو أنُفق في ترف أو إسراف, وكان يرتجف وكأن خزائن المال كلها ضاعت وليس درهما أو بعض درهم.


ها هو ذا يعدو وراء بعير أفلت من معطنه, ويلقاه علي بن أبي طالب فيسأله : إلى أين يا أمير المؤمنين؟

فيجيبه: بعير ند من إبل الصدقة أطلبه!

فيقول له علي:" لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك..."!

فيجيبة عمر بكلمات متهدجة: "والذي بعث محمدا بالحق, لو أن عنزا ذهبت بشاطئ الفرات, لأخُذ بها عمر يوم القيامة ..."!


الشوري


لا يوجد حاكم في التاريخ رفع من قدر الشوري مثلما رفعها عمر, وقد نالت الديمقراطية من ذلك الرجل بخير فرص التألق والازدهار, لم يحاول عمر أن يفرض رأيه أو أن يملي مشيئته ولم ينفرد ساعة من نهار بحكم الناس دون أن يشركهم في مسئولية هذا الحكم.


وكان يحذر من قول الرأي الذي يوافق رأيه قائلا " لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، وقولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق".

والشوري والمعارضة عند أمير المؤمنين هما جناحا الحكم الصالح القويم.


يصعد عمر المنبر يوما فيقول: "يا معشر المسلمين, ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا هكذا"؟

فيشق الصفوف رجل ويقول وهو يلوح بذراعه كأنها حسام ممشوق: إذن نقول بالسيف هكذا.

فيسأله عمر: إياي تعني بقولك؟؟

فيجيب الرجل: نعم إياك أعني بقولي.

فتضئ الفرحه وجه عمر ويقول "رحمك الله.. والحمد لله الذي جعل فيكم من يقوم عوجي"!!

لم يكن هذا الموقف من أمير المؤمنين استعراضيا, إنما كان ينشد من ورائه الوصول إلى الحق والطمأنينة إلى أنه يحكم أمة من الأسود لا قطيعا من النعاج.


في يوم , وهو جالس مع أخوانه يخترق الصفوف رجل ثائر ملء قبضته شعر محلوق ولا يكاد يبلغ عمر حتي يقذف بالشعر في صدره في مرارة واحتجاج، ويموج الناس بالغضب ويهم به بعضهم فيؤمي إليهم عمر ثم يجمع الشعر بيده ويشير للرجل فيجلس وينتظر عمر حتي يهدأ روعه ثم يقول له:

والأن ما أمرك ؟؟

فيجيب الرجل وقد عادت إليه ثورته: أما والله, لولا النار يا عمر ..!!

فيقول عمر: صدقت والله.. لولا النار..!! ما أمرك يا أخا العرب؟

ويقص الرجل شكوته, وفحواها ان أبا موسي الأشعري أنزل به عقوبة لا يستحقها, فجلده وحلق شعر رأسه بالموسي, فجمع الرجل الشعر وجاء به إلي عمر.

فينظر عمر إلى وجوه أصحابه ويقول:

لأن يكون الناس كلهم في قوة هذا أحب إلى من جميع مما أفاء الله علينا.

ثم يكتب لأبي موسي يأمره أن يُمَّكن الرجل من القصاص منه جلدا بجلد وحلقا بحلق.


تواضعه


لم يكن عمر يستهويه التمايز, ولا يمكن أن يجد راحة نفسه وغبطتها إلا في البساطة المتناهية, وفي الحياة "بين" الناس لا "فوق" الناس.

فهو يجلس حيث انتهي به المجلس ..ليس له مكان صدارة يختص به نفسه, وهو ينام حيث يدركه النوم, فوق الحصيرة في داره, أو فوق الرمال تحت ظل النخيل..!! وهو يأكل ما يجد , وما يقيم الأود لا غير ..شريحة من اللحم المقدد , أو شريحة من الخبز مبللة بالزيت متبلة بالملح..!!

وهو سعيد حين يسمع امرأة أو غلاما يناديه: يا عمر

وهو في سعادة لو علمها ملوك الأرض لحسدوه عليها , حين يري عجوزا تحمل مكتلا يصعب عليها حمله, فيتقدم منها ويحمله, ويضحك ملء نفسه, وهو يسمعها وهي تقول له شاكرة :

أثابك الله الخير يا بني ..إنك لأحق بالخلافة من عمر..!!

تلك هي الأسطورة التي مشت علي أرض الحجاز، و قال عنها عبدالله بن مسعود " لله در ابن الخطاب أي امرئ كان..؟!.