الخميس، 31 ديسمبر 2009

"جدد حياتك".. دعوة للنجاح والحياة السعيدة مع بداية عام جديد



كثيرا ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته , ولكن يربط هذه البداية بموعد مع الأقدار المجهولة كتحسن في حالته أو تحول في مكانته , أو يقرنها بموسم معين أو بداية عام مثلا.. وهو في هذا التسويف يشعر بان رافدا من روافد القوة قد يجئ فينشطه بعد خمول.
وهذا وهم. فإن تجدد الحياة ينبع قبل كل شئ من داخل النفس.

والرجل المقبل على الحياة بعزيمة وبصر لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت إنما هو الذي يستفيد بها. كالزهرة التي تطمر تحت أكوام السبخ ثم هي تشق طريقها إلي أعلي مستقبلة أشعة الشمس.

لا مكان لتريث. ولا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب. فأن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير. والحاضر ولو كان باسما أو كالحا هو وحده الدعائم التي يعتمد عليها مستقبلك. يقول صلي الله عليه وسلم "واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة. ولا يغترن أحدكم بحلم الله فإن الجنة والنار أقرب إلي أحدكم من شراك نعله".

الكلمات السابقة كانت جزءا من كتاب الشيخ محمد الغزالي "جدد حياتك" الصادر عن نهضة مصر في 206 صفحة من الحجم الكبير, وهو من أفضل الكتب التي تناولت كيف أن يحيا الإنسان حياة هنائه بعيدا عن ضغوط حياة العصر التي تطحن أعصابنا.

و"جدد حياتك" مأخوذ من كتاب "دع القلق وأبدأ الحياة" للكاتب الأمريكي ديل كارنيجي. وهو كتاب نال شهرة كبيرة جعلت مبيعاته تحتل المرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم والإنجيل.

وقد قام الشيخ الجليل محمد الغزالي بأخذ مادة الكتاب وردها إلي الأصل الإسلامي. "في هذا الكتاب مقارنة بين تعاليم الإسلام كما وصلت إلينا وبين أصدق وأنظف ما وصلت إليه حضارة الغرب في أدب النفس والسلوك".

ومع بداية عام جديد ندعو القراء إلي قراءة الكلمات التالية لعلها تساعدنا على تجديد حياتنا.

عش في حدود يومك

من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله الطويل. حيث ينطلق تفكيره في خط لا نهاية له , وما أسرع ما تعترضه الأوهام والوساوس.
لكن .. لماذا تخامرك الريبة ويخالجك القلق؟ عش في حدود يومك فذاك أصلح لك.
يقول الرسول: "من أصبح آمنا في سربه , معافى في بدنه , عنده قوت يومه , فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"
أنك تملك العالم كله يوم تجمع هذه العناصر في يديك فاحذر أن تستهين بها.
أما استعجال المصائب والضوائق التي لم يحن موعدها فهو خطأ كبير , وقد يكون ذلك أوهام خلقها التشاؤم . والواجب أن يستفتح الإنسان يومه وكأن اليوم عالم مستقل بما يحويه من زمان ومكان وكما يقول الخليل إبراهيم " اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك, واختمه لي بمغفرتك ورضوانك".
على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل أبدا أو ترك الإعداد , فهناك فارق كبير بين الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به , بين التيقظ في استغلال اليوم الحاضر وبين التوجس المحير مما قد يأتي به الغد.

الثبات والأناة

إذا نزلت بك شدة فما تصنع؟
يقول كارنيجي:
سل نفسك: ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي؟
ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات؟
ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وهذه خطه يوصي بها العقل والدين معا باتباعها , فالرجل الذي يمسك أعصابه أمام الأزمات هو الذي يظفر في النهاية بجميل العاقبة , ولذلك يقول صلي الله عليه وسلم : "إنما الصبر عند الصدمة الأولي".

وقد يتوقع الإنسان أن تنزل به المصيبة فيستبد به القلق , وكأنما في حدوثها الموت , وربما لا يهنأ بطعام أو شراب. وهذا خطأ بالغ . فالمؤمن الراشد يفترض أن أسوأ ما يقلقه قد وقع بالفعل ثم ينتزع مما تبقي عناصر حياة تكفي أو معاني عزاء.

وعلى هذا فعلينا أن نعد أنفسنا لتقبل الحقيقة , فأن التسليم بما حدث هو الخطوة الأولي في التغلب علي المصائب.

هموم وسموم

الناس في سباق رهيب لجمع حطام الدنيا . وهو سباق يطحن الأعصاب فلا يبقي منها على شئ حتى تشتعل , لذلك ينصحنا نبينا صلي الله عليه وسلم بعدم التكالب على الدنيا وبث السكينة في القلوب, واستئصال جذور الطمع والجري وراء الدنيا " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه, وجمع له شمله, وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت همه جعل الله فقره بين عينيه, وفرق عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".

ولأن عشق المال يورث القلق البالغ من فواته يقول صلي الله عليه وسلم : إن هذا المال خضر حلو ومن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع.

ويتفق كارنيجي مع ما قاله محمد صلي الله عليه وسلم فيعترف بأن القلق هو القاتل الأول في أمريكا , وأن ورجال الإعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرا , فالقلق يحكم العمالقة.
والقلق هو أيضا أصل معظم الأمراض. فالطب يقول لنا بأن الأزمات النفسية تحول العصارات الهاضمة إلي سموم فلا تستفيد المعدة من أغني الأطعمة . وقد قرأنا كيف أن بكاء يعقوب علي ابنه يوسف أفقده البصر , ولذلك كان رسول الله يعلمنا أن نستعين بالله في النجاة من الآفات وأمرنا أن نقول كل صباح ومساء : اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ ك من غلبه الدين وقهر الرجال.

ويستدرك الشيخ الغزالي قائلا: قد يقال بأن الرضا المطلق قد يبعث علي البلادة ونجيب بأنه لا تنافي بين الرضا بالواقع والرغبة في تكميل النفس وإمدادها بما تحتاج إليه من الأغذية الدنيوية والعقلية والروحية. فإذا قال رسول الله : ارض بما قسم الله لك تكن أغني الناس . فلا تجعل الرضا ذريعة القصور والقعود. بل ارض بيومك وأمل ما يسرك.

كيف نزيل أسباب القلق

إذا واجهتنا مشكلة فعليك أن نتبع خطوات معنية:
§ استخلص الحقائق
§ حلل الحقائق
§ اتخذ قرارا حاسما ثم اعمل بمقتضى هذا القرار.

والخطوة الأولي تفرض علينا التأمل الهادئ فيما حولنا لتجميع الحقائق الواضحة وبالتالي القيام بسلوك بناءا علي ذلك . وجمع المعلومات ليس بالأمر السهل ذلك أن المحبة والكراهية قد تسيطر علي تفكيرنا. فما العلاج؟
العلاج أن نفصل بين عاطفتنا وتفكيرنا وان نستخلص الحقائق بطريقة مجردة.

أما الخطوة الثانية لجمع المعلومات فهي استشعار السكينة التامة في تلقيها وضبط النفس أمام ما يظهر منها محيرا أو مروعا. وحياة عدد كبير من القادة والأبطال تحفل بالمآزق التي لم ينج منها إلا تقييد الرهبة وإطلاق العقل.
مثلا في الحديبية التفت عوامل الاستفزاز بالنبي وأصحابه لكن كظم النبي ما يحس به من حزن وأمر أصحابه أن يطرحوا الريبة والهم وأن يقبلوا معاهدة تصون الدماء وتنشر الأمان رغم ما فيها من تعنت.

"إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا".

وقد يجد المرء نفسه أمام سلسلة من الفروض المقترحة للخروج من أزمة طارئة وقد يجد أن أحلاها مر , هنا تتكاثر حوله الأفكار القاتمة. أما المؤمن فهو يختار أقرب الفروض إلي السكينة والرشد ثم لا يبالي ما يحدث بعد ذلك " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ".
الخطوة الأخيرة بعد أن يجمع الإنسان الحقائق ويحللها أن ينفذ القرار الذي أنتهي إليه بعزم صادق . وهذا ليس أمر هينا . فهناك أناس تملك من الفطنة ما يكشف لها بواطن الأمور لكنهم محرومون من قوة الإقدام فيقون في مكانهم بين مشاعر الحيرة والارتباك . لذلك إذا اتخذت أمرا فلن يبقي هناك مكانا إلا العمل السريع " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".
وعلى هذا فعندما تصل إلي قرار وتشرع في تنفيذه فلا تترد ولا تخلق لنفسك الشكوك والأوهام ولا تعاود النظر إلي الوراء.
فلندرس مواقفنا في الحياة بذكاء, ولنرسم منهاجا للمستقبل على بصيرة ثم لنرم بصدورنا إلي الأمام ولنثق بأن الله يحب منا ذلك لأنه يكره الجبناء ويكفل المتوكلين.

لا تدع التوافه تغلبك على أمرك

قد نواجه كوارث الحياة وأحداثها في شجاعة وصبر ثم ندع توافه الأمور تغلبنا علي أمرنا لذلك يقول رسول الله " إياكم ومحقرات الذنوب , فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".
وكما أن تجمع الصغائر يهدد حياة الإنسان, فإن تجسيم الصغائر أمر فيه الظلم الشديد.

ومن المؤسف أن بعض الناس يقع على السيئة في سلوك شخص ما فيقيم الدنيا ويقعدها من أجلها ثم يعمي أو يتعامى عما تمتلئ به حياة هذا الشخص من أفعال حسان وشمائل كرام.
والله عز زجل يتجاوز عن التوافه " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً".


قضاء وقدر

إحساس المؤمن بأن زمام العالم لن يفلت من يد الله يقذف بمقادير كبيرة من الطمأنينة في فؤاده, ذلك أنه مهما اضطرابت الأحداث فكلها بمشيئة الرحمن "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".

والمؤمن الحق هو من يتوكل على الله ويستريح إلي ما يأتي به المستقبل , ذلك أنه لا معني لتوتر الأعصاب واشتداد القلق بازاء أمور تخرج عن نطاق إرادتنا.
وقد يندم الإنسان على ما فرط فيه , أما أن يطلع عليه القدر بما لا دخل له فيه فهنا لا مكان لندم أو ملام وبالتالي لا مكان فيه لقلق أو ريبة.
وبهذا المنطق نستطيع أن نواجه الحياة . أما إذا فرغت نفوسنا من الله ونظرنا إلي الأحداث كأنها موج يتدفع مدا أو جزرا فإننا نحيا بفؤاد هواء تلعب من الأحداث والظنون.

والسر في ذلك أن الركون إلي القدر - وهو غير القول بالجبر – يورث جراءة على مواجهة اليوم والغد ويجعل المرء يقبل وهو مبتسم خسارة النفس والمال. " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ" .

ويقول صلي الله عليه وسلم " من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له , ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله , ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضي الله له".

لا تبك على فائت

يحوي الماضي أحوال القرون الغابرة , ومصاير الأتقياء والفجار , وصراع الخير والشر, وفي هذه الحدود يجب أن ندرس الماضي لنأخذ منه العظة أما العودة إلي الأمس القريب أو البعيد لنجدد حزنا أو ندور حول مأساة حزت في نفوسنا لنقول : "ليت , ولو" فإن هذا ما يكرهه الإسلام , وليس هذا من شيمة الرجولة ومنطق الإيمان.
فالنظر المطلوب منا إلي الماضي هو النظر للتعرف على سر الخطأ الذي وقعنا فيه لكي نتقيه في المستقبل . فما قيمة أن لطم الخدود وشق الجيوب على حظ فات؟
وما قيمة أن يندم الإنسان على حدث طواه الزمن؟
وطالما أننا لا نستطيع أن نعود للماضي ونغير ما وقع به من أحداث فخير لنا أن نكرس الجهود لما نستأنف به من أيام وليال, ففيها وحدها العوض.

حياتك من صنع أفكارك

سعادة الإنسان أو شقاوته أو قلقه أو سكينته تنبع من نفسه وحدها. أنه هو الذي يعطي الحياة لونها البهيج أو المقبض, كما يتلون السائل بلون الإناء الذي يحويه : "فمن رضى فله الرضا , ومن سخط فله السخط".
عاد النبي أعرابيا مريضا يتلوي من شدة الحمي, فقال له مواسيا "طهور" فقال الأعرابي : بل هي حمى تفور , على شيخ كبير , لتورده القبور. قال النبي : فهي إذن.

يعني أن الأمر يخضع للاعتبار الشخصي فإن شئت جعلتها تطهيرا ورضيت وأن شئت جعلتها هلاكا وسخطت.

ولا يستطيع أحدا أن ينكر ما للروح المعنوية من أثر باهر لدى الأفراد والجماعات. فالجيوش قد تنتصر بقوة العقيدة والصبر أكثر من انتصرها بوفرة السلاح والعتاد.
والرجل الذي يثق بنفسه لا يقف أمامه نقص في بدنه أو عنت في ظروفه بل قد يكون ذلك سببا لشدة نشاطه واستقباله للحياة.

الجمعة، 18 ديسمبر 2009

الهجرة النبوية دروس وعبر



إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له. وقد تنادي المسلمون في كل مكان : هلموا إلي يثرب!! . فلم تكن الهجرة تخلصا فقط من الفتنة والاستهزاء , بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. وأصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد , وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه , وأصبح ترك المدينة بعد الهجرة إليها نكوصا عن تكاليف الحق وعن نصر الله ورسوله , فالحياة بها دين , لأن الدين يعتمد على إعزازها.

بهذه الكلمات بدأ الشيخ محمد الغزالي حديثه عن الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرومة إلي يثرب "طيبة الإسلام" في كتابه القيم "فقه السيرة" والذي كتبه خلال جلسات روحانية بمدينة رسول الله وفي مسجده النبوي.

وبعد دعوة استمرت بمكة ثلاثة عشرة عاما عاني فيها الرسول والصحابة ما عانوه على أيدي أبو جهل وأبو لهب وأميه بن خلف وأشباههم من المكابرين, أذن الله لنبيه بالهجرة والتي أضحت بحق أعظم حركة قام بها فرد وكان لها أكبر الأثر في تغيير مجري حياة العالم الذي بدأ يتشكل من جديد متأثرا بالنور الذي انبثق من طيبة.

يصف الشيخ الغزالي رحمه الله الهجرة فيقول أنها لم تكن مجرد ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلي أرض مخصبة. بل كانت إكراه رجل آمنٍ في حياته مستقر في وطنه مكة على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله وإشعاره بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها. وبأنه يسير نحو مستقبل غامض. لا يدري ما يتمخض عنه من مشاق وأحزان.

كان صحابة رسول الله يغادروا مكة وكل فرد منهم يحمل أهله وولده وهو بذلك رضيَّ الضمير، وضّاء الوجه. كيف؟
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة

كانت صعاب الهجرة لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك. أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلَّى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم: هاجروا مع رسولكم إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.
كان كل فرد منهم على استعداد – وبدون تردد - للتخلي عن كل ما يملك لكفار مكة. فقط يريد الرحيل مع الرسول. وضرب الصحابة أمثلة صارت كأنها أساطير. فعندما هم صهيب الرومي بالهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا.. ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك.

قال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟

قالوا: نعم.

قال: فإني قد جعلت لكم مالي.

فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب!

وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة جماعات ووحداناً، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحي له حصن يحتمي به، وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته.
إن محمداً لا يزال في مكة، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها..

قريش في دار الندوة

اجتمع طواغيت مكة واتخذوا قرارهم بقتل محمد وتفريق دمه بين القبائل. وأخبر الوحي محمدا (صلي الله عليه وسلم) بما دبرته قريش وألقى في قلبه هذا الدعاء الجميل: "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا".

لم يكن تأييد الوحي للرسول يعني له التفريط والاستكانة. ومن ثَمَّ فإنه صلَّى الله عليه وسلم أحكم خطة هجرته، وأعدَّ لكل فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء. لنأخذ من ذلك درسا في أسباب النجاح. فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل بعد ذلك على الله.
فإذا صب المرء كل جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة يبتلي بها. وقلّما يحدث ذلك إلا عن قَدَر قاهر يعذر المرء فيه!!

وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .

درس في سياسة الأمور

كان صلي الله عليه وسلم حريصا على كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.

وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء يتغلب به على المطاردين. ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فقد كان دليله مشركاً ولم يمنعه هذا من استخدامه والانتفاع بموهبته.

واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء وجودهم بالغار، ومهمة كل شخص.
ثم عاد الرسول إلى بيته، ليجد قريشا بدأت تضرب الحصار حوله وتبدأ في تنفيذ خطتهم الإبليسية في تفريق دم النبي بين القبائل.

وضرب على بن أبي طالب مثالا للشباب في الإيمان والشجاعة. فبات تلك الليلة الرهيبة وهو على سرير رسول الله يرتدي برده الذي ينام فيه.

وجاء موعد الهجرة.. وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس، خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ومنه إلي غار ثور.. الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع.

ما ظنك باثنين الله ثالثهما !!

أصيبت قريش بالصدمة بعدما أفلت رسول الله من بين أيديهم. كانوا قريش تدرك مقدار ما تمثله تلك الرحلة في مسيرة حياة مكة بل ومصير الجزيرة العربية. لذلك انطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق, يفتشون كل مهرب, ينقِّبون الجبال وكهوفها، حتى وصلوا قريباً من غار ثور.

أنصت الرسول وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله: "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

ويعلق الشيخ الغزالي رحمه الله على القول بأن قريش وجدت على باب غار ثور عنكبوت ناسجا لخيوطه وحمامه تضع بيضها بأن الجنود التي يخذل الله بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ".


ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون أعداءه وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرَّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان، ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى:
"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".

في الصحراء إلي المدينة

ثلاثة أيام قضاها الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار، وبعدما خمد حماس المشركين في الطلب، وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة.

إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟.
ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها.

يحكي الشيخ الغزالي أنه يوما ومعه رفاق خرجوا في وهج الظهيرة فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارهم, فأغمضوا عيونهم يستبقوا منها ما خافوا ضياعه.

والسير في الصحراء ليس بالشيء اليسير الهين. فعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تظن أن العالم كله صحراء مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء.


لم تكن تلك هي المرة الأولي التي يقطع فيها رسول الله ذلك الطريق. إذ مر به وهو طفل صغير ذاهب مع أمه لزيارة قبر أبيه عبدالله ثم عاد وحده بعدما فقد أمه!.
إنه الآن يعود ويقطع نفس الطريق وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها...
إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه، لكن حزين للفظاظة التي قوبل بها، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف.

وشاع نبأ انطلاق رسول الله في جوانب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع. وترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة، فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة. فإذا اشتد عليهم الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقب، والقلق، والرجاء.

مرحبا مدينة رسول الله

وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة برز الأنصار على عادتهم في انتظار قدوم النور إلي مدينتهم. فلما حميت الظهيرة كادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم؛ حتى صعد رجل على مرتفع فرأي الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب، وتدنو بهم الرواحل رويداً رويداً إلى المدينة إلى وطن الإسلام الجديد.

وأسرع الأنصار يستقبلون رسولهم، ورُج التكبير أنحاء المدينة، ولبست "يثرب" حلة العيد ومباهجه: هذا رسول الله قد جاء.

يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف الناس! إن الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جَذْلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد.