الأربعاء، 20 مايو 2020




 ابو بكر اللمتوني ... تنازل عن عرش الحكم مختارًا ونشر الإسلام في 15 بلد إفريقية 

 

كان سببا في دخول الإسلام إلى خمسة عشرة دولة أفريقية، كرس حياته كلها للجهاد، واعتبره ملاذه وراحته، ترك الخضرة والهدوء، وزوجته الحسناء، وحمل نور الإسلام ينثره بين القبائل الوثنية، وحينما نازعه في المُلك ابن عمه، وأوشكت نذر حرب أهلية أن تتجمع في الأفق، تنازل عن حكم أعظم دولة في غرب وشمال أفريقيا، وقال: إني لا ابتغ من الحياة إلا الجهاد والشهادة. وعاد ينشر الإسلام بين القبائل الوثنية الأفريقية حتى أكرمه الله بالشهادة.

 

ألا تعلمون من هو؟

أنه الأمير الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني.

 

ينتمي إلى دولة المرابطين التي شملت في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري سائر أنحاء المغرب، وموريتانيا والسنغال. وقد قامت تلك الدولة الكبرى على أكتاف قبيلة "لمتونة"، وهي بطن من بطون قبيلة "صنهاجة"، أعظم القبائل البربرية، والتي منها جاء لفظ دولة السنغال حاليا، فقد نطقها البرتغاليون سنهاجال Senhagal ثم سنجال Senegal.  

 

كل تلك القبائل تتخذ من الصحراء مسكنًا وملاذًا، تعيش على لحوم الأبل ولبنها، وكان شعارهم "اللثام"، ومن ثم فقد عُرفوا بـ"الملثمين"، ربما لأن رجالهم يغطون وجهوهم بقطعة من القماش فلا يبدو إلا العينان.

 

وليس صحيح أن "المرابطين" هم الذين أدخلوا الإسلام إلى غرب أفريقيا في القرن الحادي عشر الميلادي، كما تحاول أن تشيع ذلك المصادر الأوروبية، فقد وصل نور الإسلام إلى تلك البقاع مبكرا على يد القائد عقبة بن نافع الذي أسلم على يديه من البربر خلق كثير.

 

كانت بداية ظهور الملثمين كقوة على مسرح التاريخ الإسلامي مع الأمير يحيي بن إبراهيم الجدالي، زعيم قبيلة جدالة أو كدالة، وهي شقيقة قبيلة لمتونة يجمعها أب واحد.

 

وكان لهذا الأمير قصة يرويها لنا المؤرخ محمد عبد الله عنان في موسوعته "تاريخ الأندلس"، وهي من أفضل ما كُتب في تاريخ المغرب والأندلس.

 

فقد أحزن أمير الملثمين ما عليه قومه من جهل بأمور الدين، حتى إذا كانت سنة 427 هجريا/ 1035 ميلاديًا استخلف ولده في الرئاسة وسافر إلى الشرق ليؤدي فريضة الحج.

 

وفي طريق العودة عرج على مدينة القيروان، وهنالك التقي بالفقيه "أبي عمران الفاسي" شيخ المذهب المالكي آنذاك.. وتأثر بوعظه وعلمه، وتاقت نفسه إلى أن يري في بلاده فقيها مثله..

 

وبعد نقاش اتفق الاثنان على إرسال داعية إلى بلاد الملثمين يعلمهم ويفقههم في الدين.. وعرض أبي عمران الأمر على تلاميذه فلم يقبل منهم أحد، فبلاد الملثمين بعيدة، وعيشتهم شظف، والمغامرة خطيرة!! فكتب الفاسي له كتابا إلى أحد تلاميذه من الفقهاء والعاملين في مدينة سجلماسة واسمه "وجاج بن زلوا اللمطي" وكان فقيها ورعا..

فندب لتلك المهمة أنبه تلاميذه، وهو عبد بن ياسين الجزولي الذي ستقوم على يديه دولة المرابطين.

 

وتتناقل قبائل الصحراء فيما بينها أنباء ذلك الفقيه الشاب، فأقبلوا عليه كأمواج البحر.. فأخذ يبث بينهم أحكام الدين، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لكن دعوته لم ترق لبعض السادة منهم والذين أنفوا المساواة بالعبيد، "ومطالبتهم بالإقلاع عن تقاليدهم المنافية للإسلام مثل الزواج بأكثر من أربع، وكان من الأمور الشائعة بينهم، وغير ذلك من التقاليد المغرقة"، فأخذوا ينصرفون عنه، ويعرضون عن تعاليمه..بل أن نفرا منهم هاجموا داره، ونهبوا ما فيها.

 

وظن هؤلاء أنهم بفعلتهم هذه قضوا على الدعوة الناشئة.. لكن عبد الله بن ياسين قرر أمرا غريبا!

 

أدرك أنه لا يكفي أن يكون معك الحق لكي تنجح، بل لابد للحق من قوة تسانده وتدعمه وتدافع عنه.. وعندئذ اعتزم بن ياسين وصديقه الوفي يحيي بن إبراهيم الانقطاع إلى العبادة والزهد، في جزيرة تقع في مصب نهر السنغال.. وانضم إليه في ذلك سبعة رجال فقط!

 

وما لبث أن اشتهر أمره، ووفد عليه كثير من الرجال الأشراف ممن أثروا الزهد والعبادة، فعكف على تثقيفهم ووعظهم، وسماهم بـ"المرابطين" للزومهم رابطته.

 

وحينما اكتملت فترة الإعداد، بدأ دور الجهاد. فبعثهم إلى أقوامهم، لينذروهم، ويطلبوا منهم ترك البدع والضلالات، وإتباع أحكام الدين الصحيح، ويدخل بن ياسين في قتال مع مخالفيه.. حتى أذعنوا للطاعة، وأسلموا إسلامًا جديدًا، وبايعوه على الكتاب والسنة. كما دخل في حروب مع قبائل أفريقيا المدارية، وكان أول من وصل بالإسلام إلى هناك، وذلك حادث تاريخي بالغ الأثر.

 

وخلال حروب الدولة الجديدة يموت الأمير يحيي الجدالي، ويتولى مكانه "يحيي بن عمر اللمتوني"، ومن بعده يتولى شقيقه الأمير أبو بكر بن عمر في عام 447 هجريا.

 

كان قلب أبو بكر يجيش بحب الإسلام، والرغبة في الاستشهاد، يضرب لجنوده المثل في الشجاعة والقتال، لا تبصره إلا في قلب ساحة الوغى يصول ويجول.

 

يبدأ جهاده بقتال قبائل "برغواطة"، التي كانت تدين بمذهب يخالف الإسلام، أسسه رجل يهودي يسمي "طريف بن برباط"، استغل ما عليه القوم من بدواة وجهالة، فادعي النبوة، وأنه نزل عليه قرآن جديد، وزعم أنه المهدي المنتظر، وأباح الزواج بأي عدد من النساء!

 

سارت جيوش المرابطين لقتال هؤلاء الأقوام الكفرة الوثنين، وتنشب بين الفريقين معركة هائلة، ويصاب ابن ياسين بجراح قاتلة، ورغم حشرجة الموت، يوصي قومه بعدم التنافس على الرياسة:"كونوا على الحق وأخوانا في الله، وإياكم والمخالفة والتحاسد".

 

وباستشهاد ابن ياسين في 451 هجريا - 1059، تجتمع السلطة في يد الأمير أبو بكر، فكان أول ما فعله بعد دفن الإمام، متابعة حرب "برغواطة"، فحشد سائر قواته، وجد في قتالهم، وأثخن فيهم، حتى أذعنوا إلى الطاعة، وأسلموا إسلاما جديدا.

 

وبينما هو يواصل انتصاراته، ويفتتح المدن، إذ وفد عليه رسول يبلغه بخير أزعجه، خلاصته أن قبيلة جدالة وثبت بقبيلة لمتونة في الصحراء فأنزلت بها مذبحة، كما غارت القبائل الوثنية على مدن الجنوب.

 

كان في استطاعة أبي بكر أن يبقي في الشمال حيث الهدوء والراحة والخضرة، مستمتعا بجوار زوجته الحسناء "زينب النفرواية" التي قيل في جمالها وذكائها الكثير، ويرسل أحد قواده، لكنه لم يفعل ذلك.

 

ويقرر أبو بكر الذهاب بنفسه لرأب الصدع بين الأخوة في الدين، ويٌسلم أمر القيادة إلى رجل معروف للمرابطين بدينه وفضله وعدله وورعه، هو ابن عمه "يوسف بن تاشفين".

وفي ذي القعدة 453 هجريا / ديسمبر 1061 ميلاديا يأخذ أبو بكر معه نصف الجيش، فقضى على أسباب الشقاق بين القبائل، لكنه أبصر فوجد قبائل أفريقية تعبد الأصنام والأشجار. وبصبر شديد بدأ يدعوهم إلى الإسلام، ويبين للقبائل الأفريقية الوثنية سماحته، فأخذوا يتعجبون: كيف لم نسمع بهذا الدين من قبل؟! كيف نعبد أصناما ولا نعرف رب العالمين؟! وتثمر جهود الأمير الشيخ، فيدخل الإسلام خلق كبير من القبائل الأفريقية.

 

وحينما تطول غيبة الأمير أبو بكر في الجنوب، يبدأ بن عمه في تشييد دولة المرابطين، يفتتح المدن، وينشئ عاصمة للدولة الوليدة، وهي مدينة مراكش عام 1062م.

 

وتشرق الشمس وتغيب، وتمر السنون تتلوها السنون، ثم ينادي رسول.. إن قد عاد الأمير أبو بكر من الجنوب.

 

كان الموقف دقيقا للغاية، فقد حانت ساعة تقرير المصير، وتحديد لمن سيكون مُلك كل تلك البلاد الشاسعة؟ أللأمير أبو بكر الذي ذهب للجهاد ولم يعد إلا بعدها بأعوام طويلة؟ أم للأمير يوسف الذي شاد أركان الدولة بعبقريته وجهاده؟

 

يختلف المؤرخون في سبب عودة الأمير أبو بكر، فيقول بعضهم أنه بعد أن نظم شئون الصحراء، وقضي في غزواته بضعة أعوام، نمي إليه ما وفق إليه بن عمه من الفتوح العظيمة، ومن ضخامة السلطان واستقراره، فقرر أن يعود للمغرب ليسبر غور الأمور، وربما جال بخاطره أن يعزل يوسف، وأن يسترد هو سلطانه باعتباره أمير المرابطين الشرعي.. بينما يري البعض الأخر من المؤرخين أن أبا بكر جاء لأمر آخر!!

 

خرج يوسف من مراكش، وتلقي ابن عمه في منتصف الطريق، ثم جلسا على الأرض.. ويطيل أبو بكر النظر إلى يوسف، ثم يقول:  

" يا يوسف.. أنت ابن عمي ومحل أخي، وأنا لا غني لي عن معاونة أخواننا في الصحراء ولم أر من يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك، وقد خلعت نفسي لك.. وما وصلت إليك إلا لأسلم لك الأمر، وأعود إلى الصحراء".

يا له من موقف يستحق أن تقف عنده كتب التاريخ متأملة..

فهذا الأمير يتنازل عن ملكه العريض ببساطه بالغة قائلا إنه قد نذر نفسه للحياة في الصحراء والجهاد!

لكن بعض مؤرخينا يرفضون أن يتركوا هذا الموقف دون أن يضيفوا إليه من خيالهم، فيقولوا أن الأمير يوسف شعر بالخطر يهدد سلطانه من عودة أبو بكر، فاستشار زوجته "زينب النفرواية" في الأمر، وكان قد تزوجها بعدما طلقها أبو بكر اللمتوني عند ذهابه للجنوب، وكانت إلى جانب جمالها من أعقل نساء زمانها، وأبعدهن نظرا...

فأشارت إليه بأن يستقبل أبو بكر بالجفاء والغلظة، ويشعره بقوة سلطانه، ويلاطفه مع ذلك بالهدايا بما يصلح لحياة الصحراء.

 

ويلتقيا الرجلان، ويشعر أبو بكر مما أبداه يوسف، وتعاليه في السلام عليه وهو راكب فرسه أنه حريص على سلطانه مستعد للدفاع عنه. فزهد في القتال وأوصاه بالعدل والرفق، وعاد إلى الصحراء، وهنالك استأنف الغزو والقتال.

 

تلك الرواية يهاجمها الكاتب إبراهيم الجمل في كتابه "يوسف بن تاشفين" ويري أن أبا بكر الرجل المتقشف الورع الذي يلبس الصوف وقد تعود على الخشونة ليس في حاجة إلى ما تقترحه زينب أن كان هذا صحيحا.

 

ويري أن عودة الأمير أبو بكر كانت لتسليم الأمير يوسف قيادة الدولة، بعدما قام بتلك الأعمال الجليلة، والمواقع الحربية الخالدة، والتنظيم الداخلي، فوجد أن يوسف أجدر بالأمر منه بأن يتولي أمر المسلمين، وأولي منه لتقواه ودينه وعقله وتفكيره.

أياً كان الأمر، فقد تنازل أبو بكر عن ذلك المُلك الشاسع راضيا، وحتى إذا كانت عودته لاستعادة ملكه، فلابد أنه كان يدرك قوة جيش بن عمه، ولو أراد الدخول معه في صراع وحرب وقتال على لفعل، ولتكن حربا أهلية، ولتزهق أرواح الآلاف من البشر الأبرياء، طالما بقي هو على سدة الحكم!

 

لكنه أبدا لم يكن من طراز أولئك الحكام الذين يكونون دوما على استعداد للتضحية بكل شئ مقابل الاستمرار -ولو يوما-على كرسي السلطان.

..

ويعود أبو بكر إلى أدغال أفريقيا يدعو إلى الإسلام، فأدخل إلى نور الله 15 دولة أفريقية.. غينيا بيساو، سيراليون، ساحل العاج، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، غانا، وتوجو، الكاميرون، أفريقيا الوسطى، والجابون.

 

يعيش حياته زاهدا، مجاهدا وسط جنوده، يغزو في كل عام مرتين، يفتح البلاد، ويُعًلم الناس الإسلام.. وفي أحدي غزواته عام 478 هجريا – 1085 ميلاديا يصيبه سهم، فتصعد روحه للسماء.

وكلما ارتفع أذان في الغرب الأفريقي... ثقل ميزان أبو بكر اللمتوني عند الله يوم القيامة.

 


الاثنين، 20 يونيو 2016

خنجر سليمان الحلبي يحل معضلة الصراع بين الشرق والغرب!


كتب - سيد حامد 

في ثورة القاهرة الثانية قدم المصريون الثوار الحل للإشكالية الفكرية العويصة التي حيرت الكتًاب والمفكرين، وكانت سببا في سكب أطنان من الحبر على آلاف من الصفحات، بحثا عن حل للمعضلة الكبرى: كيف السبيل إلى نهضة الدول العربية والإسلامية والشرقية؟ هل بإتباع الغرب في كل شيء، حلوه ومره؟ أم ننقل عنه ما يتوافق مع الشرق وأخلاقنا؟

كان جواب تلك الإشكالية يبدو واضحا في شوارع القاهرة وحواريها في ثورتها الثانية على جيش الحملة الفرنسية، جواب بعيد تماما عن تلك الثنائية: الحل هو تحدي الغرب!
التحدي هو الذي يولد طاقة لكي تقاوم، لكي تتفوق، لا لكي تحاول اللحاق في ركابه والعيش في ظله، وإنما لكي تسبقه، وتتجاوزه في ركب الحضارة والثقافة. 

يقول الجبرتي في وصف ثورة القاهرة الثانية على الجيش الفرنسي وقائده المتكبر كليبر "فقد أنشأوا في أربع وعشرين ساعة معملا للبارود في بيت قائد آغا بالخرنفش، وأنشأوا معملا لإصلاح الأسلحة والمدافع، ومعملا آخر لصنع القنابل وصب المدافع جمعوا له الحديد والآلات والموازين وأخذوا يجمعون القنابل التي تتساقط من المدافع الفرنسية في الشوارع، ويستعملونها قذائف جديدة للضرب".
ويضيف الجبرتي "وأحضروا ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد وجمعوا إلى ذلك الحدادين والنجارين والسباكين وأرباب الصنائع الذين يعرفون ذلك فصار هذا كله يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه والرحبة التي عند بيت القاضي من جهة المشهد الحسيني".

يقول مسيو مارتان، أحد مهندسي الحملة، وكان شاهد عيان لتلك الثورة "لقد قام سكان القاهرة بما لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود، وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصناع، وفعلوا ما يصعب تصديقه، صنعوا المدافع"[1].     

قدمت ثورة القاهرة الثانية الحل والجواب، من يريد التقدم عليه أن يرفض الغرب، يرفض الانكسار والانسحاق له، ويدافع عن ذاته، يبذل قصاره جهده للحفاظ على روحه، ومن ثاروا ورفضوا الغرب ومحاولاته المعسولة لاكتساب القلوب صمدوا أمام أقوي جيش أوروبي لمدة 33 يوما!

خمسة أسابيع كاملة وقاهرة أول القرن التاسع عشر تقاتل أقوي جيوش أوروبا، فيما سحق كليبر الجيش العثماني في بعض يوم، فلم يستغرق خروجه واشتباكه مع الجيش العثماني ثم دخوله المدينة أكثر من 15 ساعة، وبقيت القاهرة وحدها تقاوم!

قاومت القاهرة، وعملاء الاستعمار يسددون إلى ظهرها الخناجر، الوغد مراد بك يفرض على المدينة المقاومة حصارا، ويمنع وصول الأغلال والأقوات، والمعلم يعقوب يدافع من قلعته عن أمواله.

قاومت القاهرة كأعظم ما تكون المقاومة، من بيت إلى بيت بالمعني الحرفي للكلمة، وجاءت من بعدها رشيد وصمدت أمام الجيش البريطاني في 1807، لكن حينما تولي عملاء الغرب الحكم، وغربوا بلادنا، سقطت مدننا بسهولة، تساقطت أمام جيوش الإنجليز في 1882 كأوراق الشجر، وكلما زاد التغريب تسارعت خطي الاستسلام! 

ولم تستسلم القاهرة، وإنما سحقت وأبيدت، صب عليها كليبر قنابله، سوي حي بولاق بالأرض، امتلأت شوارع الحي المجيد بجثث رجاله الأبطال! وبهذا الأسلوب الوحشي تم الانتصار لكليبر وأعظم جيوش أوروبا على القاهرة المنغلقة المتخلفة، قاهرة أول القرن التاسع عشر!

وأقدم كليبر على الانتقام من الشيخ محمد السادات. كان يعلم في قراره نفسه أنه قائد ثورة القاهرة الأولي، وقائد ثورتها الثانية، فأقدم على ما تحرج منه سلفه بونابرت، وعذب الشيخ وحبسه في القلعة، وضربه!
وقال بونابرت في مذكراته إن تعذيب الشيخ السادات أثار السخط بين علماء الأزهر وقطاعات الشعب، واحتدم الغضب إلى رغبة في الانتقام والثأر، فكان الرد اغتيال كليبر، على يد شاب أزهري[2].  
 
في يوم السبت 14 يونيو "وقعت نادرة عجيبة"..
حدث ما كان لابد أن يحدث، قتل سليمان الحلبي، الشاب ذو الأربعة والعشرين ربيعا، قائد جيش الاحتلال الفرنسي بطعنة اخترقت قلبه، وأردته صريعا.

كان كليبر وبصحبته المهندس المعماري بروتان Protian وعضو لجنة العلوم والفنون يتفقدان أعمال الترميم في قصر الألفي بحديقة الأزبكية جراء القنابل التي صبها ثوار القاهرة على مقر القائد العام أثناء أحداث الثورة.

وفي الممر الطويل المظلل بأشجار العنب، تقدم منهما رجل ظنه كليبر شحاذ يستجديه بعض المال، فأشار إليه بالرجوع وهو يقول "مفيش"، وكررها فلم يرجع الرجل، فلما دنا منه عاجله بضربة خنجر مميته أسقطت الجنرال المتكبر مضرجا في دمائه.

وأسرع الرجل الغريب بالفرار، فلحقه المهندس بروتان، واشتبكا في قتال، كان نصيبه منه 6 طعنات، أسقطته بجوار كليبر، وعاد الجاني إلى جثمان الجنرال وسدد إليه 3 طعنات ليتأكد أنه لن يتعافى من ضربات خنجره الأولي.

تمت الجريمة بنجاح، ولاذ الجاني بالفرار، لكن ليس بعيدا، وإنما تواري وراء حائط متهدم في حديقة السراي، ولم يبق في مكان الجريمة إلا عمامته التي مزقها صراعه مع بروتان[3]

لم تكن الحادثة فردية، بل هي من إعداد ذلك التنظيم السري الذي قاد ثورة القاهرة الأولي وأعدم منه نابليون 80 شيخا رميا بالرصاص وألقي بجثثهم من فوق سور القلعة العالي، ثم عاد التنظيم أكثر قوة، وقاد ثورة القاهرة الثانية، التي صمدت 5 أسابيع كاملة، وصنع المدافع والأسلحة.

أما الرواية الرسمية والمستقاة من محاضر التحقيق فتجعل للحلبي "أجندة خارجية"، وأداة اغتيال في يد القادة العثمانيين، والد سليمان واسمه الحاج محمد أمين، تاجر سمن من مدينة حلب، عاني من الغرامات الفادحة التي فرضه عليه والي المدينة العثماني، لهذا ذهب سليمان إلى ضابط بالجيش العثماني اسمه أحمد أغا، والتقي به في القدس، فوعده بمساعدته هو ووالده، ويوصي إبراهيم باشا والي حلب، "ولكن بشرط أنه يروح يقتل أمير الجيوش الفرنساوية"!، ثم أرسله أحمد أغا إلى ياسين أغا حاكم غزة، الذي وعده برفع الغرائم عن أبيه، ويجعل نظره عليه[4].

والرواية الفرنسية إذن تجعل قتل ساري عسكر الجيش الفرنساوي مؤامرة عثمانية يدبر لها اثنين من الأغوات العثمانيين، ويطلبا من شاب صغير عمره 24 عاما السفر من القدس إلى القاهرة، وكأنها المسافة بين السيدة وسيدنا الحسين، ليقتل ساري عسكر الجيش الفرنساوي وسط جيشه وعسكره!

ومصروف السفر الذي يحصل عليه الحلبي عبارة عن أربعين قرشا! ولا يجهزاه حتى بسلاح، وإنما يشتريه الحلبي من سوق غزة "واشتري أول سلاح شافه"[5].

وهذه الأسطورة تقليدية في جميع التحقيقات مع الوطنيين .. فلابد من مؤامرة أجنبية، ويد محركة، ومبلغ من المال يحرك القاتل، لا دوافع وطنية أو دينية!

كان اغتيال كليبر هو خير رد على جرائمه في حق القاهرة وثورتها الثانية والتنكيل والإبادة التي مارسه جيشه في أعقاب هزيمة الثورة.

واللجوء إلى العمل الإرهابي الفردي المسلح تحول طبيعي في المقاومة الشعبية بعد الهزيمة العسكرية من العمل العام إلى العمل تحت الأرض.

وخضع الحلبي لمراقبة دقيقة واختبار محكم من قبل التنظيم لمدة شهر، لم يقتصر على امتحان جديته وتقوية عزيمته بل تخللته مراقبة دقيقة لتصرفات وعادات كليبر[6]، وإعداد خطة محكمة ينفذ من خلالها سليمان الحلبي إلى داخل قصر الألفي وكأنه أحد رجال المعمار المشاركين في ترميم مقر القائد الفرنسي.

ولم يكن للفرنسيين أن يعلنوا عن الدوافع الدينية والوطنية لقاتل قائد جيشهم في مصر، وكان الأسلم لهم أن يحصروا التحقيق على ما وصلوا إليه، واتهام سليمان الحلبي بقتل كليبر بتحريض من الأغوات العثمانيين وتحت تأثير الذهب التركي، خاصة بعدما فشلوا في إثبات وجود صلة بين القاتل وشيخ الجامع الأزهر.

أما سليمان الحلبي فقد قال إنه جاء مصر و"مراده يغازى في سبيل الله، وأن هذه المغازة هي قتل واحد نصراني"، ولهذا اتجه إلى قلب الثورة ومركزها، لأنه يعرف أن قيادة المغازين هناك، وفي الأزهر تلقته إحدى الخلايا، ولازمته طوال شهر كامل، وعرفت أنه الشخص المؤهل لقتل كليبر، المخابرات الفرنسية لا تعرفه، ولا عيونهم المنبثة في كل مكان، ولا يعرفه برطلمين الرومي.

ولا يمكن وصف المحادثة التي تمت بين الحلبي والمشايخ الأربعة بأنها كانت مجرد دردشة أو حوار عادي بين فدائي يقدم على اغتيال أكبر رأس فرنساوي في البلاد ومجموعة من المشايخ الدراويش الذين ينصحوه بالكف عن المحاولة لأن "ربنا أعطي القوة للفرنساوية .. ما أحد يقدر يمنعهم حكم البلاد"[7]، فليس هكذا يتم اغتيال قادة جيوش الاحتلال.

وطوال شهر كامل خضع سليمان الحلبي لمراقبة دقيقة من قبل التنظيم السري، للتأكد من جديته، وتقوية عزمه، ومراقبة تحركات المقتول نفسه، وكيفية النفاذ إليه لقتله، إذ يستحيل على شاب حلبي قادم إلى القاهرة بعد سنوات من الغيبة عنها ويعرف طريقه إلى كليبر بهذه السهولة، والتسلل إلى قصر محمد الألفي دون أن يشك فيه أحد، ثم يميز بينه وبين المهندس الفرنسي المرافق له بسهولة.

نفذت خلية الأزهر أول حادثة اغتيال سياسي فردي في تاريخ مصر الحديثة، وتمت العملية بنجاح منقطع النظير، وقضت الطعنة الأولي على قائد الجيش الفرنسي الذي سحق ثورة القاهرة الثانية وأحرق أحيائها.

ولم ينس التنظيم تلقين خلية الأزهر ما ستقوله إذا ما سقطت في أيدي السلطات، فسليمان الحلبي الذي قُبض عليه في بستان الألفي، وملابسه ملطخة بالدماء وممزقة، والسكين الذي نفذ بها عمليته قريبة منه، ينكر في بداية التحقيقات قتله لكليبر، ويدلي بمعلومات خاطئة عن تاريخ وصوله إلى القاهرة، وسبب ذهابه إلى الجيزة، وأن الفرنسيين لم يقبضوا عليه في بستان قصر الألفي وإنما في قارعة الطريق، فلما ضيقوا عليه الخناق قال إنه تواري في الحديقة لأن خيالة جيش الاحتلال الأوروبي كانت تجوب الطرق، وما كان يقدر أن يذهب للمدينة، ولما سألوه عن الجروح الظاهرة في رأسه قال إنها ناتجة عن ضرب العسكر له حينما أمسكوه به[8].  

وأمام مكر سليمان الحلبي يأمر ساري عسكر مينو بضرب الحلبي بحكم "عوائد البلاد"![9] ورغم التعذيب الوحشي الذي يتعرض له الفدائي الأول يدلي الحلبي بما يريد من اعترافات، وفي أضيق النطاق، فلا يسقط من التنظيم كله إلا الحلبي ومن المشايخ أربعة، يتم القبض على ثلاثة منهم، فيما يفر الرابع، ونلاحظ عدد المتهمين، وهو خمسة، الرقم المفضل لدي التنظيمات السرية في تكوين الخلايا الثورية، سنقابل نفس العدد في تنظيمات جمعية العروة الوثقي والحزب الوطني والإخوان المسلمين.

ويقبض الفرنسيون على أعضاء الخلية: عبد الله الغزي، محمد الغزي، أحمد الوالي[10]، يقبضون عليهم من الجامع الأزهر، معقل التنظيم، فيما يفر عبد القادر الغزي.

وثلاثة من المشايخ كما يبدو من أسمائهم ينتمون إلى غزة، واستخدموا كل مكرهم في الإنكار أولا، ثم مع الضرب يدلون بأقل المعلومات وبالتقسيط.

وفي المحاكمة يحاول الفرنسيون بكل الطرق إثبات وجود صلة بين خلية الأزهر وشيخ الجامع الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي، لكن الخلية تثبت في اعترافاتها رغم تعرضها للتعذيب الوحشي[11]

كذلك ماكر الشيخ أحمد الوالي المحققين، وأنكر أن سليمان أخبره بقتل كليبر، فلما واجهوه باعتراف سليمان قال "الآن لما فكره سليمان افتكر أنه أخبره"[12]!
"وسُئل: هل سليمان ما عرفه برفقائه؟ وهل هو ما تحدث مع أحد بذلك وخصوصا مع شيخ الجامع الذي هو ملزوم يخبره بكل ما يجري؟ فجاوب "إن سليمان ما قال له على رفقائه، وهو ما أخبر بذلك أحد، ولا أيضا شيخ الجامع"
"سُئل: هل سكن سليمان بالجامع لسبب أنه قال له على مراده في قتل ساري عسكر؟ فجاوب "لا .. لأن كل أهل الإسلام تقدر تسكن في الجامع"[13]
ويوجه المحقق السؤال إلى سليمان الحلبي: هل هو من ملة المغازين؟ وهل أن المشايخ سمحوا له في قتل الكفار في مصر ليُكتب له أجر ويقبل عند النبي محمد؟ فجاوب "أنه ما فتح سيرة المغازاة إلا إلي الأربعة مشايخ فقط الذين سماهم". 

واخترع حجة بديعة لصرف الاتهام عن الشيخ الشرقاوي، فجاوب "أنه ما شاف هذا الشيخ، لأنه ما هو من ملته، بسبب أن الشيخ الشرقاوي شافعي، وهو حنفي"[14]!.

وفي نهاية المحاكمة التي تودع القرون الوسطي وتستقبل العصور الحديثة والمدنية الأوروبية حكم الفرنسيون على سليمان الحلبي بالإعدام، على تحرق يده اليمني وهو حي ينظر إليها، ثم يوضع على الخازوق، وتترك جثته تأكل منها جوارح الطيور[15].

والحكم بقطع رؤوس ثلاثة من المشايخ وهم: محمد الغزي، وعبد الله الغزي، وأحمد الغزي، باعتبار أنهم شركاء لسليمان الحلبي في جريمته، وتوضع رؤوسهم على نبابيت، ويحرق جسمهم بالنار، ويتم كل ذلك أمام سليمان الحلبي قبل أن يتم إعدامه، على ينفذ حكم الإعدام في الجميع أمام العسكر والمصريين[16]!

وأضاف نص الحكم "وهذه الشريعة والفتوي لازم ينطبعوا باللغة التركية والعربية والفرنساوية، من كل لغة قدر خمسماية نسخة" .. وهذا هو التطور التكنولوجي الذي يفرق بين الثورة الفرنسية، وبين همجية جنكيز خان وهولاكو، جزارين العصور الوسطي المظلمة!

وأمام قبر ساري عسكر كليبر في تل العقارب ارتفع الخازوق عاليا في سماء القاهرة يرفع جسد سليمان الحلبي ليعلن عن زيف مبادئ الثورة الفرنسية: الحرية، والإخاء، والمساواة.. فالحرق حيا والخازوق هما مبادئ الثورة في الشرق!

حادث الاغتيال السياسي الأول!
هكذا يصنفه مؤرخونا .. ولماذا نعده حادث الاغتيال السياسي الأول؟ ألان فاعله هو مواطن من عامة الشعب تجرأ واغتال قائد الجيش الفرنسي الذي أسرف في قمع ثورة القاهرة؟ ولماذا لا نقول على الجرائم التي يرتكبها قادة الحملة والحكام المماليك والعثمانيين وما سيتبعهم على عرش مصر جرائم سياسية؟!

أتهتز صفحات المؤرخين وتقف أمام اغتيال القادة والزعماء فيما تمر مرور الكرام على آلاف المصريين الذين يسقطون تحت ركام مدافع الفرنسيين وسياط المماليك وبربرية العثمانيين وتوحش محمد على؟!



[1] محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، ص 304
[2] عبد العزيز محمد الشناوي، الأزهر جامعا وجامعة، ص 147
[3] الجبرتي، ص 190 . الرافعي، ص 161، 162
[4] الجبرتي، ص 205، 206
[5] الجبرتي، ص 206
[6] ودخلت الخيل الأزهر، ص 346
[7] الجبرتي، ص 200
[8] الجبرتي، ص 195
[9] الجبرتي، ص 195
[10] الجبرتي، ص 195، 196
[11] الجبرتي، ص 208، 209
[12] الجبرتي، ص 209
[13] الجبرتي، ص 209
[14] الجبرتي، ص 212
[15] الجبرتي، ص 215، 217
[16] الجبرتي، ص 218 

السبت، 18 يونيو 2016

محمد بن عبد الله (صلي الله عليه وسلم) .. الإنسان الذي علم الإنسانية

كتب - سيد حامد 


أسمح لي يا سيدي بهذه الكلمات، أعبر فيها عن حبي وتقديري..أعلم أنها قد لا توفيك حقك, فجميع ما خطه البشر عنك يتساقط دون أن يبلغ القمة التي تقف عليها , ولكنها سيدي محاولة فاقبلها مني.


من يعرفك, ويقترب منك, يأسره ذلك النور الخارج من بين ثناياك. فأنت نور, وخالقك هو النور, والقرآن الذي تتلقاه نور, نور يهدي الحائرين والباحثين عن الكمال الإنساني.

يأتيك أعرابي وأنت توزع المال, فيمسك ملابسك, ويجذبك منها, فتترك أثرا على صفحة عاتقك , ويقول لك في غلظة: يا محمد..أعطني من هذا المال, فليس المال مالك أو مال أبيك.

وماذا يكون ردك على تلك القسوة؟ يهم صاحبك عمر رضي الله عنه أن يبطش بالأعرابي فتمنعه في هدوء.. وتبتسم في وجه الأعرابي وتجزل له العطاء.

سيدي..كل ما سطره المؤرخون من مجلدات عن أبطال وعظماء العالم لا يحوي موقفا مماثلا لصنيعك مع الأعرابي!!.

كنت نبي آخر الزمان, وخاتم المرسلين, لكنك بين الناس بشر, تمشي في الأسواق, وتعمل بيدك , تأكل وتشرب, وتفرح وتحزن.
كتب السيرة تقول أنك سيدي حينما دخلت المدينة, لم يستطع بعض أهلها أن يميزك عن صاحبك أبي بكر.
وعندما سرت يوما في مقابر المدينة, ووجدت امرأة تنوح على ابنها, قلت لها اصبري, لم تعرفك وقالت: إليك عني..فأنك لم تصب بمصيبتي.
لم تعرفك..
ولم تعرف أن الحزن زارك مرات عديدة..
فاختطف الموت أبنائك الذكور في مكة..القاسم والطيب.
وفي المدينة ذوت زهرة رقية باكرا, ومن بعدها طوي الموت صفحة أم كلثوم, ثم زينب.

وأخيرا رزقك الله بإبراهيم..
أسميته إبراهيم تيمنا باسم جدك الأكبر نبي الله إبراهيم.
هل كنت تطمع أن يخرج من نسله أمه كأمة خليل الرحمن؟!

ويكبر صغيرك, وينمو حبه في قلبك, وتفرح به كما يفرح المسافر في صحراء بواحة بها زرع وماء في صيف قائظ شديد الحرارة !
لما تنتهي من أعمالك وجهدك المضني في بناء أمة الإسلام, تسرع إلى بيت إبراهيم , تداعبه وتهش له..تتصابي له..تخرج له لسانك, فيري حمرته فيبتسم الصغير..
ويكبر وينمو..حتى يبلغ من العمر ستة عشر شهرا..
ثم يختطفه الموت!!.
آه..في هذا السن النضرة.. في السن الذي تتفتح فيه الزهرة وتستجيب لمداعبات النسيم, وغناء العصافير, وشعاع الشمس.
وتبكي.. تبكي على رحيل ابنك.
ولا تكاد تحملك قدمك..فتتساند على أكتاف أثنين من أصحابك..وتنظر للجبل وتناديه: يا جبل..لو أن بك ما بي..لهدك الحزن!.
ويتعجب أصحابك..ويرون دموعك فتقول لهم : أنها رحمة الله وضعها في قلوب عباده.

وتكسف الشمس يوم وفاة إبراهيم. ويتهامس الناس أنها حزنت على فراقه, فتخرج إليهم متحاملا على أحزانك, وتقولها قوية "الشمس والقمر من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد, ولا يحزنان لموت أحد".
.....
وفي بيتك, كنت نعم الزوج..
وهل ينسي التاريخ حبك لأمنا خديجة؟!..

عندما فتح الله عليك مكة , يوم الانتصار الكبير على القرية التي تكبر سادتها عليك , وأذوك ثلاثة عشر عاما , وحاربوك بالسلاح ثمانية آخري 
حينما دخلتها تذكرت منازل الطفولة , والشباب , والأيام التي قضيتها مع زوجك الحنون الطاهرة , شريفة قريش , أمنا خديجة – رضي الله عنها , تشد من أزرك وتساندك , كنت كلما عدت إلى بيتكما حزينا على ما تلاقيه من عنت وصلف وتكبر وإيذاء , فإذا هي تقويك , وتشجعك على تحمل أداء رسالة ربك.. موقنة إن الله سينصرك.

هل كانت تلك الذكريات تترآي أمام ناظريك وكأنها بالأمس حينما طرق الباب؟.. وتنبهت لوقع الطرقات ولصوت القادم , يذكرك الصوت بتلك الأيام الجميلة..فتبتسم فرحا , وكأنك عدت إلى أيامك الأولي مع حبيبتك خديجة.. وتقول مسرورا: اللهم هالة. أخت رفيقة عمرك.

بعد كل تلك السنوات, مازلت يا سيدي تعرف وقع طرقات هالة على الباب!. تفسح لها في مجلسك..وتتجاذب معها أطراف الحديث..هي تذكرك بخديجة..تتحدثان سويا عنها, وعن أيامكم الجميلة.

تغار زوجتك عائشة - والتي أعلنت على الملأ أنها أحب الناس إلى قلبك- وتقول لك بغيرة النساء أن  الله قد أبدلك خيرا منها .. فتغضب لقولها وتقسم " ما أبدلني الله بها خيرا منها , لقد أمنت بي حين كفر الناس , وصدقتني حين كذبني الناس , وأشركتني في مالها حين حرمني الناس , ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها"

وتلك الرقة يا سيدي , وهذا الحب الإنساني الذي يفيض أنهارا , يهدر شجاعة وإقدام في ساحة الوغى والمعارك..
في "أحد", وأنت في الثالثة والخمسين تقاتل وكأنك شابا يافعا.. وفي حنين تجلت فيك كل شجاعة الفارس..هرب جيش الإسلام تحت وقع المفاجأة التي أعدتها هوازن وثقيف, لكنك وقفت كالجبل, تنادي بأعلى صوتك: "أنا النبي لا كذب..أنا بن عبد المطلب".. وحدك مع قليل من فرسان الإسلام أمام جيش ضخم..حتى أن فارس الإسلام على بن أبي طالب يقول أنه كان يحتمي بك إذا استعر القتال. لله درك يا رسول الله أي رجل عظيم أنت!

من يقابلك تبتسم في وجهه, تبدأ من يقابلك بالسلام. ومن يضع يده في يدك لا تنزعها حتى يكون هو البادئ. تعطي كل حواسك لمن يتحدث إليك.
إذا سرت رفضت أن تكون في المقدمة, وأصحابك ورائك.. وعلمتنا أن التبعة, فتنة للمتبوع, وذلة للتابع.
...
سيدي..
المساحة المخصصة تنبئني بأني قد جاوزتها..ولم أزل أحمل الكثير من حبي وتعظيمي , فأنت يا سيدي قدوتي , وبوصلتي في الحياة الدنيا , بك يهتدي الحائرون , وعلى هديك تجوب سفننا بحور الحياة , وعلى دربك نسير , وعلى خطاك نقتفي أثرك. وإذا كانت لي دعوة مستجابة عند ربي لكانت أن تنعم على بشربة من كفك لا أظمأ بعدها أبدا , وأسعد بصحبتك.. فهل أحشر معك يا سيدي وأنت من قلت "المرء يحشر مع من أحب"؟!  


وعذرا سيدي أني لم أوافيك بعض حقك.