الخميس، 31 ديسمبر 2009

"جدد حياتك".. دعوة للنجاح والحياة السعيدة مع بداية عام جديد



كثيرا ما يحب الإنسان أن يبدأ صفحة جديدة في حياته , ولكن يربط هذه البداية بموعد مع الأقدار المجهولة كتحسن في حالته أو تحول في مكانته , أو يقرنها بموسم معين أو بداية عام مثلا.. وهو في هذا التسويف يشعر بان رافدا من روافد القوة قد يجئ فينشطه بعد خمول.
وهذا وهم. فإن تجدد الحياة ينبع قبل كل شئ من داخل النفس.

والرجل المقبل على الحياة بعزيمة وبصر لا تخضعه الظروف المحيطة به مهما ساءت إنما هو الذي يستفيد بها. كالزهرة التي تطمر تحت أكوام السبخ ثم هي تشق طريقها إلي أعلي مستقبلة أشعة الشمس.

لا مكان لتريث. ولا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب. فأن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير. والحاضر ولو كان باسما أو كالحا هو وحده الدعائم التي يعتمد عليها مستقبلك. يقول صلي الله عليه وسلم "واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة. ولا يغترن أحدكم بحلم الله فإن الجنة والنار أقرب إلي أحدكم من شراك نعله".

الكلمات السابقة كانت جزءا من كتاب الشيخ محمد الغزالي "جدد حياتك" الصادر عن نهضة مصر في 206 صفحة من الحجم الكبير, وهو من أفضل الكتب التي تناولت كيف أن يحيا الإنسان حياة هنائه بعيدا عن ضغوط حياة العصر التي تطحن أعصابنا.

و"جدد حياتك" مأخوذ من كتاب "دع القلق وأبدأ الحياة" للكاتب الأمريكي ديل كارنيجي. وهو كتاب نال شهرة كبيرة جعلت مبيعاته تحتل المرتبة الثالثة بعد القرآن الكريم والإنجيل.

وقد قام الشيخ الجليل محمد الغزالي بأخذ مادة الكتاب وردها إلي الأصل الإسلامي. "في هذا الكتاب مقارنة بين تعاليم الإسلام كما وصلت إلينا وبين أصدق وأنظف ما وصلت إليه حضارة الغرب في أدب النفس والسلوك".

ومع بداية عام جديد ندعو القراء إلي قراءة الكلمات التالية لعلها تساعدنا على تجديد حياتنا.

عش في حدود يومك

من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله الطويل. حيث ينطلق تفكيره في خط لا نهاية له , وما أسرع ما تعترضه الأوهام والوساوس.
لكن .. لماذا تخامرك الريبة ويخالجك القلق؟ عش في حدود يومك فذاك أصلح لك.
يقول الرسول: "من أصبح آمنا في سربه , معافى في بدنه , عنده قوت يومه , فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"
أنك تملك العالم كله يوم تجمع هذه العناصر في يديك فاحذر أن تستهين بها.
أما استعجال المصائب والضوائق التي لم يحن موعدها فهو خطأ كبير , وقد يكون ذلك أوهام خلقها التشاؤم . والواجب أن يستفتح الإنسان يومه وكأن اليوم عالم مستقل بما يحويه من زمان ومكان وكما يقول الخليل إبراهيم " اللهم هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك, واختمه لي بمغفرتك ورضوانك".
على أن العيش في حدود اليوم لا يعني تجاهل المستقبل أبدا أو ترك الإعداد , فهناك فارق كبير بين الاهتمام بالمستقبل والاغتمام به , بين التيقظ في استغلال اليوم الحاضر وبين التوجس المحير مما قد يأتي به الغد.

الثبات والأناة

إذا نزلت بك شدة فما تصنع؟
يقول كارنيجي:
سل نفسك: ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي؟
ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات؟
ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وهذه خطه يوصي بها العقل والدين معا باتباعها , فالرجل الذي يمسك أعصابه أمام الأزمات هو الذي يظفر في النهاية بجميل العاقبة , ولذلك يقول صلي الله عليه وسلم : "إنما الصبر عند الصدمة الأولي".

وقد يتوقع الإنسان أن تنزل به المصيبة فيستبد به القلق , وكأنما في حدوثها الموت , وربما لا يهنأ بطعام أو شراب. وهذا خطأ بالغ . فالمؤمن الراشد يفترض أن أسوأ ما يقلقه قد وقع بالفعل ثم ينتزع مما تبقي عناصر حياة تكفي أو معاني عزاء.

وعلى هذا فعلينا أن نعد أنفسنا لتقبل الحقيقة , فأن التسليم بما حدث هو الخطوة الأولي في التغلب علي المصائب.

هموم وسموم

الناس في سباق رهيب لجمع حطام الدنيا . وهو سباق يطحن الأعصاب فلا يبقي منها على شئ حتى تشتعل , لذلك ينصحنا نبينا صلي الله عليه وسلم بعدم التكالب على الدنيا وبث السكينة في القلوب, واستئصال جذور الطمع والجري وراء الدنيا " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه, وجمع له شمله, وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت همه جعل الله فقره بين عينيه, وفرق عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".

ولأن عشق المال يورث القلق البالغ من فواته يقول صلي الله عليه وسلم : إن هذا المال خضر حلو ومن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع.

ويتفق كارنيجي مع ما قاله محمد صلي الله عليه وسلم فيعترف بأن القلق هو القاتل الأول في أمريكا , وأن ورجال الإعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرا , فالقلق يحكم العمالقة.
والقلق هو أيضا أصل معظم الأمراض. فالطب يقول لنا بأن الأزمات النفسية تحول العصارات الهاضمة إلي سموم فلا تستفيد المعدة من أغني الأطعمة . وقد قرأنا كيف أن بكاء يعقوب علي ابنه يوسف أفقده البصر , ولذلك كان رسول الله يعلمنا أن نستعين بالله في النجاة من الآفات وأمرنا أن نقول كل صباح ومساء : اللهم أني أعوذ بك من الهم والحزن , وأعوذ بك من العجز والكسل , وأعوذ ك من غلبه الدين وقهر الرجال.

ويستدرك الشيخ الغزالي قائلا: قد يقال بأن الرضا المطلق قد يبعث علي البلادة ونجيب بأنه لا تنافي بين الرضا بالواقع والرغبة في تكميل النفس وإمدادها بما تحتاج إليه من الأغذية الدنيوية والعقلية والروحية. فإذا قال رسول الله : ارض بما قسم الله لك تكن أغني الناس . فلا تجعل الرضا ذريعة القصور والقعود. بل ارض بيومك وأمل ما يسرك.

كيف نزيل أسباب القلق

إذا واجهتنا مشكلة فعليك أن نتبع خطوات معنية:
§ استخلص الحقائق
§ حلل الحقائق
§ اتخذ قرارا حاسما ثم اعمل بمقتضى هذا القرار.

والخطوة الأولي تفرض علينا التأمل الهادئ فيما حولنا لتجميع الحقائق الواضحة وبالتالي القيام بسلوك بناءا علي ذلك . وجمع المعلومات ليس بالأمر السهل ذلك أن المحبة والكراهية قد تسيطر علي تفكيرنا. فما العلاج؟
العلاج أن نفصل بين عاطفتنا وتفكيرنا وان نستخلص الحقائق بطريقة مجردة.

أما الخطوة الثانية لجمع المعلومات فهي استشعار السكينة التامة في تلقيها وضبط النفس أمام ما يظهر منها محيرا أو مروعا. وحياة عدد كبير من القادة والأبطال تحفل بالمآزق التي لم ينج منها إلا تقييد الرهبة وإطلاق العقل.
مثلا في الحديبية التفت عوامل الاستفزاز بالنبي وأصحابه لكن كظم النبي ما يحس به من حزن وأمر أصحابه أن يطرحوا الريبة والهم وأن يقبلوا معاهدة تصون الدماء وتنشر الأمان رغم ما فيها من تعنت.

"إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا".

وقد يجد المرء نفسه أمام سلسلة من الفروض المقترحة للخروج من أزمة طارئة وقد يجد أن أحلاها مر , هنا تتكاثر حوله الأفكار القاتمة. أما المؤمن فهو يختار أقرب الفروض إلي السكينة والرشد ثم لا يبالي ما يحدث بعد ذلك " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ".
الخطوة الأخيرة بعد أن يجمع الإنسان الحقائق ويحللها أن ينفذ القرار الذي أنتهي إليه بعزم صادق . وهذا ليس أمر هينا . فهناك أناس تملك من الفطنة ما يكشف لها بواطن الأمور لكنهم محرومون من قوة الإقدام فيقون في مكانهم بين مشاعر الحيرة والارتباك . لذلك إذا اتخذت أمرا فلن يبقي هناك مكانا إلا العمل السريع " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ".
وعلى هذا فعندما تصل إلي قرار وتشرع في تنفيذه فلا تترد ولا تخلق لنفسك الشكوك والأوهام ولا تعاود النظر إلي الوراء.
فلندرس مواقفنا في الحياة بذكاء, ولنرسم منهاجا للمستقبل على بصيرة ثم لنرم بصدورنا إلي الأمام ولنثق بأن الله يحب منا ذلك لأنه يكره الجبناء ويكفل المتوكلين.

لا تدع التوافه تغلبك على أمرك

قد نواجه كوارث الحياة وأحداثها في شجاعة وصبر ثم ندع توافه الأمور تغلبنا علي أمرنا لذلك يقول رسول الله " إياكم ومحقرات الذنوب , فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".
وكما أن تجمع الصغائر يهدد حياة الإنسان, فإن تجسيم الصغائر أمر فيه الظلم الشديد.

ومن المؤسف أن بعض الناس يقع على السيئة في سلوك شخص ما فيقيم الدنيا ويقعدها من أجلها ثم يعمي أو يتعامى عما تمتلئ به حياة هذا الشخص من أفعال حسان وشمائل كرام.
والله عز زجل يتجاوز عن التوافه " إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً".


قضاء وقدر

إحساس المؤمن بأن زمام العالم لن يفلت من يد الله يقذف بمقادير كبيرة من الطمأنينة في فؤاده, ذلك أنه مهما اضطرابت الأحداث فكلها بمشيئة الرحمن "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ".

والمؤمن الحق هو من يتوكل على الله ويستريح إلي ما يأتي به المستقبل , ذلك أنه لا معني لتوتر الأعصاب واشتداد القلق بازاء أمور تخرج عن نطاق إرادتنا.
وقد يندم الإنسان على ما فرط فيه , أما أن يطلع عليه القدر بما لا دخل له فيه فهنا لا مكان لندم أو ملام وبالتالي لا مكان فيه لقلق أو ريبة.
وبهذا المنطق نستطيع أن نواجه الحياة . أما إذا فرغت نفوسنا من الله ونظرنا إلي الأحداث كأنها موج يتدفع مدا أو جزرا فإننا نحيا بفؤاد هواء تلعب من الأحداث والظنون.

والسر في ذلك أن الركون إلي القدر - وهو غير القول بالجبر – يورث جراءة على مواجهة اليوم والغد ويجعل المرء يقبل وهو مبتسم خسارة النفس والمال. " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ" .

ويقول صلي الله عليه وسلم " من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له , ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله , ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضي الله له".

لا تبك على فائت

يحوي الماضي أحوال القرون الغابرة , ومصاير الأتقياء والفجار , وصراع الخير والشر, وفي هذه الحدود يجب أن ندرس الماضي لنأخذ منه العظة أما العودة إلي الأمس القريب أو البعيد لنجدد حزنا أو ندور حول مأساة حزت في نفوسنا لنقول : "ليت , ولو" فإن هذا ما يكرهه الإسلام , وليس هذا من شيمة الرجولة ومنطق الإيمان.
فالنظر المطلوب منا إلي الماضي هو النظر للتعرف على سر الخطأ الذي وقعنا فيه لكي نتقيه في المستقبل . فما قيمة أن لطم الخدود وشق الجيوب على حظ فات؟
وما قيمة أن يندم الإنسان على حدث طواه الزمن؟
وطالما أننا لا نستطيع أن نعود للماضي ونغير ما وقع به من أحداث فخير لنا أن نكرس الجهود لما نستأنف به من أيام وليال, ففيها وحدها العوض.

حياتك من صنع أفكارك

سعادة الإنسان أو شقاوته أو قلقه أو سكينته تنبع من نفسه وحدها. أنه هو الذي يعطي الحياة لونها البهيج أو المقبض, كما يتلون السائل بلون الإناء الذي يحويه : "فمن رضى فله الرضا , ومن سخط فله السخط".
عاد النبي أعرابيا مريضا يتلوي من شدة الحمي, فقال له مواسيا "طهور" فقال الأعرابي : بل هي حمى تفور , على شيخ كبير , لتورده القبور. قال النبي : فهي إذن.

يعني أن الأمر يخضع للاعتبار الشخصي فإن شئت جعلتها تطهيرا ورضيت وأن شئت جعلتها هلاكا وسخطت.

ولا يستطيع أحدا أن ينكر ما للروح المعنوية من أثر باهر لدى الأفراد والجماعات. فالجيوش قد تنتصر بقوة العقيدة والصبر أكثر من انتصرها بوفرة السلاح والعتاد.
والرجل الذي يثق بنفسه لا يقف أمامه نقص في بدنه أو عنت في ظروفه بل قد يكون ذلك سببا لشدة نشاطه واستقباله للحياة.

الجمعة، 18 ديسمبر 2009

الهجرة النبوية دروس وعبر



إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له. وقد تنادي المسلمون في كل مكان : هلموا إلي يثرب!! . فلم تكن الهجرة تخلصا فقط من الفتنة والاستهزاء , بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. وأصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد , وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه , وأصبح ترك المدينة بعد الهجرة إليها نكوصا عن تكاليف الحق وعن نصر الله ورسوله , فالحياة بها دين , لأن الدين يعتمد على إعزازها.

بهذه الكلمات بدأ الشيخ محمد الغزالي حديثه عن الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرومة إلي يثرب "طيبة الإسلام" في كتابه القيم "فقه السيرة" والذي كتبه خلال جلسات روحانية بمدينة رسول الله وفي مسجده النبوي.

وبعد دعوة استمرت بمكة ثلاثة عشرة عاما عاني فيها الرسول والصحابة ما عانوه على أيدي أبو جهل وأبو لهب وأميه بن خلف وأشباههم من المكابرين, أذن الله لنبيه بالهجرة والتي أضحت بحق أعظم حركة قام بها فرد وكان لها أكبر الأثر في تغيير مجري حياة العالم الذي بدأ يتشكل من جديد متأثرا بالنور الذي انبثق من طيبة.

يصف الشيخ الغزالي رحمه الله الهجرة فيقول أنها لم تكن مجرد ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلي أرض مخصبة. بل كانت إكراه رجل آمنٍ في حياته مستقر في وطنه مكة على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله وإشعاره بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها. وبأنه يسير نحو مستقبل غامض. لا يدري ما يتمخض عنه من مشاق وأحزان.

كان صحابة رسول الله يغادروا مكة وكل فرد منهم يحمل أهله وولده وهو بذلك رضيَّ الضمير، وضّاء الوجه. كيف؟
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة

كانت صعاب الهجرة لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك. أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلَّى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم: هاجروا مع رسولكم إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.
كان كل فرد منهم على استعداد – وبدون تردد - للتخلي عن كل ما يملك لكفار مكة. فقط يريد الرحيل مع الرسول. وضرب الصحابة أمثلة صارت كأنها أساطير. فعندما هم صهيب الرومي بالهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا.. ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك.

قال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟

قالوا: نعم.

قال: فإني قد جعلت لكم مالي.

فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب!

وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة جماعات ووحداناً، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحي له حصن يحتمي به، وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته.
إن محمداً لا يزال في مكة، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها..

قريش في دار الندوة

اجتمع طواغيت مكة واتخذوا قرارهم بقتل محمد وتفريق دمه بين القبائل. وأخبر الوحي محمدا (صلي الله عليه وسلم) بما دبرته قريش وألقى في قلبه هذا الدعاء الجميل: "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا".

لم يكن تأييد الوحي للرسول يعني له التفريط والاستكانة. ومن ثَمَّ فإنه صلَّى الله عليه وسلم أحكم خطة هجرته، وأعدَّ لكل فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء. لنأخذ من ذلك درسا في أسباب النجاح. فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل بعد ذلك على الله.
فإذا صب المرء كل جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة يبتلي بها. وقلّما يحدث ذلك إلا عن قَدَر قاهر يعذر المرء فيه!!

وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .

درس في سياسة الأمور

كان صلي الله عليه وسلم حريصا على كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.

وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء يتغلب به على المطاردين. ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فقد كان دليله مشركاً ولم يمنعه هذا من استخدامه والانتفاع بموهبته.

واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء وجودهم بالغار، ومهمة كل شخص.
ثم عاد الرسول إلى بيته، ليجد قريشا بدأت تضرب الحصار حوله وتبدأ في تنفيذ خطتهم الإبليسية في تفريق دم النبي بين القبائل.

وضرب على بن أبي طالب مثالا للشباب في الإيمان والشجاعة. فبات تلك الليلة الرهيبة وهو على سرير رسول الله يرتدي برده الذي ينام فيه.

وجاء موعد الهجرة.. وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس، خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ومنه إلي غار ثور.. الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع.

ما ظنك باثنين الله ثالثهما !!

أصيبت قريش بالصدمة بعدما أفلت رسول الله من بين أيديهم. كانوا قريش تدرك مقدار ما تمثله تلك الرحلة في مسيرة حياة مكة بل ومصير الجزيرة العربية. لذلك انطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق, يفتشون كل مهرب, ينقِّبون الجبال وكهوفها، حتى وصلوا قريباً من غار ثور.

أنصت الرسول وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله: "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

ويعلق الشيخ الغزالي رحمه الله على القول بأن قريش وجدت على باب غار ثور عنكبوت ناسجا لخيوطه وحمامه تضع بيضها بأن الجنود التي يخذل الله بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ".


ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون أعداءه وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرَّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان، ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى:
"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".

في الصحراء إلي المدينة

ثلاثة أيام قضاها الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار، وبعدما خمد حماس المشركين في الطلب، وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة.

إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟.
ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها.

يحكي الشيخ الغزالي أنه يوما ومعه رفاق خرجوا في وهج الظهيرة فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارهم, فأغمضوا عيونهم يستبقوا منها ما خافوا ضياعه.

والسير في الصحراء ليس بالشيء اليسير الهين. فعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تظن أن العالم كله صحراء مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء.


لم تكن تلك هي المرة الأولي التي يقطع فيها رسول الله ذلك الطريق. إذ مر به وهو طفل صغير ذاهب مع أمه لزيارة قبر أبيه عبدالله ثم عاد وحده بعدما فقد أمه!.
إنه الآن يعود ويقطع نفس الطريق وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها...
إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه، لكن حزين للفظاظة التي قوبل بها، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف.

وشاع نبأ انطلاق رسول الله في جوانب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع. وترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة، فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة. فإذا اشتد عليهم الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقب، والقلق، والرجاء.

مرحبا مدينة رسول الله

وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة برز الأنصار على عادتهم في انتظار قدوم النور إلي مدينتهم. فلما حميت الظهيرة كادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم؛ حتى صعد رجل على مرتفع فرأي الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب، وتدنو بهم الرواحل رويداً رويداً إلى المدينة إلى وطن الإسلام الجديد.

وأسرع الأنصار يستقبلون رسولهم، ورُج التكبير أنحاء المدينة، ولبست "يثرب" حلة العيد ومباهجه: هذا رسول الله قد جاء.

يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف الناس! إن الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جَذْلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد.

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

يا حسارة على العباد

ما يحدث بين مصر والجزائر الآن أعتقد لو أن أعظم مؤلفي أفلام الخيال العلمي طلبوا منه أن يكتب فيلم يتسبب في اشعال نار الفتنة بين البلدين فلن ينجح مثلما نجحت وسائل إعلام هنا وهناك.

يا حسارة على العباد .. أبكي حزنا على ما أشاهده .. هل وصلنا إلي نهاية الدنيا لنري ما يحدث ..أكاد لا اصدق
أتمني ان تمر الأيام وأري هذه الأزمة قد انكشفت .. نحن مسلمون يا أخوان .. مسلمون .. رب واحد ودين واحد
عجيب أمرنا..أيام قليلة ويقف الحجيج على عرفات متساوون أمام رب العباد .. ورغم ذلك نري من يتطاول على مصر ويصفها بأنها صغيرة.. وأخرون يتهمون شعب عربي بأنه لا يعرف الاسلام ..

لا أستطيع أن اكمل الكتابة ..

... ويا حسارة على العباد

السبت، 24 أكتوبر 2009

نقاب أم حجاب

بعد أزمة شيخ الأزهر مع الفتاة التي ترتدي نقاب عاد إلي السطح مرة أخري الحديث عن النقاب والحجاب ..

أقول بصراحة .. تعجبت من الكثيرين الذين يدافعون عن النقاب باعتباره زي الإسلام للمرأة . وقال السيد أبو اسحاق الحويني أن النقاب عبادة وليس عادة , ووصف من ينتقد النقاب بأنه جاهل .

أولا نحن لا ننكر على من ترتدي النقاب إذا كانت تريد أن تحافظ علي نفسها , ولا يمكن أن نحارب النقاب ونترك العري الذي نعني منه ليل نهار

أما في مسألة النقاب هل هو عادة أم عبادة نقول للمدافعين عنه : الإسلام يأمر بكشف الوجه في الحج والصلوات فهل يحرض بذلك على الفاحشة ؟

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

في كتابا كان سببا لوفاته

جمال حمدان في "اليهود انثربولوجيا": يهود فلسطين ليسوا من نسل بني إسرائيل

محيط – السيد حامد


تقوم الدعاية الصهيونية علي أكذوبتين أساسيين, الأولى أن اليهود تعرضوا طوال تاريخهم للاضطهاد , وبلغ هذا الاضطهاد مبلغه في ألمانيا النازية, ويستدر اليهود عطف العالم بهذه الأسطورة, والثانية تقول بأن اليهود يحق لهم تأسيس وطن قومي في فلسطين لأن يهود بني إسرائيل بعد أن خرجوا منها ظلوا بمنأى عن الاختلاط الدموي مع الشعوب التي انتشروا بينها, وعلي هذا فيهود اليوم هم النسل المباشر لبني إسرائيل التوراة, شعب الله المختار, الذي وهبه الله ارض الميعاد.


ولهدم أسس تلك الدعاية وتفنيدها علمياً أصدر المفكر والعالم الكبير جمال حمدان كتابه الشهير " اليهود أنثروبولوجيا " في فبراير عام 1967, وفيه أثبت أن 95 % من اليهود المعاصرين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين , كما أثبت كذلك ان الاضطهاد الذي تعرض له اليهود لم يكن بسبب التعصب الديني وإنما يرجع إلي طريقة حياة اليهود واستعلائهم علي غيرهم من الأمم ، ونستعرض فصولا من الكتاب الصادر عن دار " الهلال" والذي تسبب في اغتيال صاحبه .

وللعلم فإن الأنثروبولوجي هو علم دراسة البشر ، في كل مكان وطوال الوقت, وتتعلق أسئلته الأساسية بـ ما الذي يميز الإنسان من ناحية الصفات الجسدية, ولماذا هناك تباينات واختلافات بين المجموعات المختلفة من البشر.

رحلة في التاريخ القديم

يرتبط ذكر اليهود تاريخيا بقصة أبوالأنبياء سيدنا إبراهيم – عليه السلام - الذي عاش في القرن 18 قبل الميلاد في جنوب العراق , وهاجر مع قومه حتى وصلوا إلي حوران في فلسطين, وهناك يولد لإبراهيم سيدنا اسحق , ولاسحق سيولد سيدنا يعقوب ، عليهم السلام , ومن أبناء يعقوب الاثني عشر ستتأصل الأسباط في التاريخ والتوراة.

وحينما وصل اليهود فلسطين وجدوها مسكونة بالكنعانيين, فدخل الطرفان في حرب انتهت بسيطرة العبرانيين علي التلال والأراضي المنخفضة الفقيرة الداخلية في حين ظلت السهول الغنية في أيدي الكنعانيين الأصليين.

وبعد 150 عاما فقط من هجرة إبراهيم, يهاجر يعقوب وأولاده إلي مصر بسبب القحط الشهير, وفيها استقروا بأرض جاشان ( وادي الطميلات والشرقية) نحو 350 عاما إلي أن خرج بهم سيدنا موسى – عليه السلام - حوالي 1300 ق . م هربا من انتقام فرعون لتعاونهم في خيانة واضحة مع الهكسوس غزاة مصر.

خرج اليهود من مصر إلي سيناء, وعاقبهم الله بـ" التيه" في سيناء 40 عاما حتى قادهم يشوع إلي نهر الأردن حيث انتزعوا بعضا من أرض كنعان الداخلية. وفي عام 1000 ق . م يؤسس نبي الله داود عليه السلام مملكة إسرائيل ويتخذ من أورشليم, أي مدينة السلام, عاصمة له , لكن دولته انشطرت بعد خليفته سليمان إلي مملكتين, مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل شمالا في السامرة , وأصبحت الدولتين متحاربتين حتى قضي سرجون الآشوري عام 721 ق م علي الدولة الشمالية وقضي نبوخذ نصر البابلي علي الدولة الجنوبية في 586 ق م .

اليهود في الشتات

تعرض اليهود لثلاث أو أربع مراحل من الشتات, بدأت الأولي مع سرجون الآشوري الذي نقل كثير من إسرائيلي السامرة إلي بابل, كما نقل نبوخذنصر أغلبية اليهود إلي بابل, وحينما سمح الفرس بعد نصف قرن لليهود بالعودة عادت قلة ضئيلة تقدر بنحو 50 ألفا , أما الأغلبية فبقيت في العراق وانتشرت في فارس وأفغانستان وبخاري وسمرقند, والقوقاز والهند والصين.


أما يهود الجزيرة العربية فيقول جمال حمدان أنه لا يوجد دليل يؤكد انتمائهم إلي يهود الشتات البابلي , والأرجح أنهم عرب تحولوا إلي اليهودية وليسوا من يهود فلسطين , وكذلك الحال ليهود اليمن فقد تحول عدد كبير من سكان البلاد إلي اليهودية.


والشتات الثاني هو الشتات الهلليني الذي بدأ مع فتوح الإسكندر واستمر مع السلوقيين والبطالسة ثم البيزنطيين ؛ حيث انتشر اليهود في كل أنحاء العالم الهللينستسي والبيزنطي , وفي الإسكندرية كانوا يشكلون ثلث سكان المدينة, وعدا مصر تركز اليهود في مركزان: البلقان و سواحل البحر الأسود, وأرسل يهود البلقان عناصر منهم إلي روسيا.


ولعب التتار دورا مهما في التاريخ اليهودي فقد تحولت دوله الخزر التترية إلى اليهودية في القرن السابع أو الثامن الميلادي وبهذا أصبح في المنطقة يهود أصليين ويهود متحولين من السكان المحليين.


الشتات الروماني هو الشتات الثالث ؛ فقد خرب الرومان أورشليم في مذبحة عام 70 م , وحينما عاد اليهود للثورة 135 م عاقبهم الرومان بمذبحة نهائية قضت وإلي الأبد علي علاقة اليهود بفلسطين كدولة وكقومية.

وقام الرومان بنفي من تبقي علي قيد الحياة من اليهود إلي سائر أنحاء الإمبراطورية, وكان عددهم 40 ألف فقط , وفي القرن الخامس الميلادي وصل العدد ما بين 4 و 7 ملايين , أي أنهم ضاعفوا أنفسهم بين 100 و 180 مرة , وهذه الزيادة قد تعني أن تزايدهم كان بالتحول والتبشير كما سنري.


نصل أخيرا إلي الشتات الحديث, وبدأ مع اكتشاف الأمريكتين وهجرة عدد كبير من اليهود إلي أمريكا حتى أصبحت تضم أكبر عدد من اليهود في العالم . ومع الاضطهاد النازي خرجت أعداد كبيرة أخري إلي الولايات المتحدة وتوجهت أعداد أخرى إلي فلسطين.

طوائف اليهود الثلاث

ينقسم اليهود في العصور الحديثة إلي ثلاثة طوائف أساسية, وهي الأشكناز والسفاردي واليهود الشرقيين.
الأشكناز والسفاردي كلمتان قديمتان في التوراة استعارتهما اليهودية في العصور الوسطي لتميز بين يهود ألمانيا ويهود أسبانيا علي الترتيب ، اعتقادا منهم بأن يهود ألمانيا ينحدرون من نسل قبيلة بينامين. والسفارديم يدعون أنهم "أرستقراطية" اليهود, لكن الأشكناز يؤلفون الأغلبية العددية والطبقة المتفوقة حضاريا إلي حد ما لدرجة أنهم يحتقرون السفارديم.


وينتشر الأشكناز اليوم في غرب ووسط وشرق أوروبا , بالإضافة إلي العالم الجديد , وجنوب أفريقيا واستراليا. في حين يمثل السفارديم يهود البلقان والشرق الأدنى , وبعض المستعمرات والجاليات المبعثرة علي شواطئ البحر المتوسط بالإضافة إلي امتدادهم في العالم الجديد.

أما اليهود الشرقيين فإنهم يمثلون مجموعة قائمة بذاتها استمدت أصولها القديمة من فلسطين, وهم إذا كانوا الأقرب إلي الأصول الفلسطينية فإنهم الأقل عددا ومرتبة بين اليهود, وينظر إليهم السفارديم والأشكناز نظرة احتقار وازدراء.

مجتمع الجيتو

في هذا الفصل يتحدث كتاب جمال حمدان أنه في كل الأماكن التي انتقل اليهود إليها فقد عاشوا في مكان خاص بهم وحدهم, وربما يعود سبب هذه العزلة إلي قوانين الدول التي عاش فيها اليهود احكاما للرقابة عليهم ومنع اختلاطهم بغيرهم , ولكن كثيرا ما ترجع هذه العزلة إلي صنع اليهود أنفسهم سعيا منهم إلي التركز والاحتشاد في نقطة واحدة ضمانا للحماية.


واليهودي مرتبط دائما بالمال والتجارة والسمسرة والربا أبدا, ويكره العمل اليدوي الشاق أو في الخلاء, يكره الجهد الجسماني عامة, ويفضل أن يعيش بعقله لا بعضله. من هنا يبتعد عن الزراعة والصناعة ويركز علي العيش في المدن حيث الأعمال الحرة والمعاملات التجارية والنشاطات المصرفية والمالية ...الخ. وهذا الأمر هو سبب كراهية الأمم لهم, ولعله – أكثر من التعصب الديني – المصدر الأول لاضطهادهم ومقتهم.

الأصل الجنسي لليهود

نصل الآن إلي أساس الدعاية الصهيونية, فبعد كل هذا الشتات الذي تعرض له اليهود تحاول آلة الدعاية أن تسخر الأنثروبولوجية لتثبت أن يهود بني إسرائيل بعد أن خرجوا من فلسطين حافظوا علي نقائهم الجنسي !.


يفند جمال حمدان تلك الأساطير بالأساليب العلمية, ويؤكد – بعد مقارنة يهود اليوم والمذكورين بالتوراة قديما متتبعا الصفات الجنسية من طول ولون بشرة وغير ذلك - أنه لا توجد وحدة جنسية بين اليهود ككل, ويستشهد بأقوال بعض العلماء اليهود أيضا مثل هوتون Hooton الذي يقرر بجزم قاطع "حقيقة هي لا شك فيها أن اليهود مختلطون جنسيا ومن وأصول طبيعية متنوعة".

والسؤال الآن : كيف تم اختلاط أو تخليط اليهود ؟ وما هي الأدلة والشواهد عليه؟ .. لقد كان هناك طريقان أساسيان لانتشار اليهودية وتمددها : التحول الديني سواء من الوثنية أو المسيحية , والتزواج والامتزاج الدموي ؛ فنجد أن اليهود المذكورين بالتوراة قد تخلطوا في عقر دارهم مع جيرانهم من الفلسطينيين .

وطوال تاريخ اليهود نلمح ظاهرتين : أعداد كبيرة من غير اليهود تدخل اليهودية , وفي نفس الوقت أعداد من اليهود لا تقل ضخامة تخرج من اليهودية ,وبالتالي فإن جسم طائفة اليهود ليس ثابتا جنسيا بل هو متحرك. ويقرر حمدان حقيقة خطيرة : اليهود جنسيا آريون أكثر منهم ساميين أو بتعبير آخر إنهم أوروبيون يهودوا أكثر منهم يهود تأوربوا .

ويؤكد حمدان بكتابه أيضا أننا لا يمكن علميا أن نستبعد من بعض يهود العالم نسبة ما من الأصل الفلسطيني القديم , لكن هؤلاء لا يزيدون علي نسبة بالغة الضآلة إلي أقصي حد. وقد توصلت دراسة لعالم بريطاني أن 95 % من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة وإنما هم أجانب متحولون أو مختلطون.

وترى الحركة الصهيونية – وفق الكتاب الذي بين أيدينا - أن روح الليبرالية المعاصرة وتطور الوعي في المجتمعات الصناعية والتسامح الديني كلها طفرات تهدد بانتهاء اضطهاد ونهاية ضد السامية ، وبالتالي تهدد بسقوط الستار الحديدي الذي فرضه اليهود علي أنفسهم وتهدد بذوبانهم في شعوب الأمم الأخرى ، ومن هنا تشدد في استبقاء مناخ الاضطهاد وتجسيد أسطورته إلي الأبد لتوقف تيار الذوبان الغلاب الذي يفرض نفسه ويتمثل في التزواج المختلط مع غير اليهود, وفي تحول بعض اليهود إلي عقائد أخري. ويتنبأ حمدان أن يتناقص - لهذا السبب - يهود أمريكا مع تسارع العلمانية..

أفكار خاطئة

مادام اليهود لم يعودا من الساميين فيمكننا أن نرى الخطأ الشائع في تسمية اضطهاد اليهود بمعاداة السامية فنحن في الحقيقة إزاء "ضد اليهودية", الاضطهاد النازي لليهود في ألمانيا لم يكن في جوهره إلا اضطهاد ألمان لألمان , لا يقل معظمهم عنهم في الآرية والنوردية. وإنما يختلفون فقط في الديانة وطريقة الحياة .تسقط كذلك ببساطة أي دعاوى قرابة دم بين العرب واليهود ، فقد يكون يهود التوراة والعرب أبناء عمومة , لكن نسل اسحق ذاب في دماء غربية ووصل الذوبان إلي حد الانحلال حتى أصبحنا إزاء قوم غرباء لا علاقة لهم البتة بإسحاق.


إن اليهود اليوم أقارب الأوروبيين والأمريكيين ومن هنا فإن اليهود في أوروبا وأمريكا ليسوا غرباء او دخلاء أجانب يعيشون في المنفي وتحت رحمة أصحاب البيت بل هم من صميم أهل البيت نسلا وسلالة لا بفرقهم عنهم سوى الدين, إذن اليهود غرباء فقط في فلسطين .

وانطلاقا من هذا يسقط كذلك أي ادعاء سياسي للصهيونية في ارض الميعاد . فبغض النظر عن أن القانون الدولي يتكفل بشجب إدعاءاتهم على أي أساس تاريخي أو ديني فان الانثروبوجيا تبدد أي أساس جنسي قد يزعمون في هذا الصدد. فمن ناحية ليس اليهود قومية ولا هم شعب أو أمة بل هم مجرد طائفة دينية تتألف من أخلاط من كل الشعوب والقوميات والأمم والأجناس .

.. في التسعينات من القرن الماضي بدأ حمدان في كتابة مسودة كتابه " اليهودية والصهيونية" , وربما أراد التوسع في عرض فكرة كتاب " اليهود أنثروبولوجيا " . لكن في أحد الأيام عثر علي العالم الجليل مقتولا في شقته, والبعض قال أنه مات محترقا أثناء أعداد كوب شئ لنفسه حيث كان يعيش في عزله, لكن البعض الآخر يرجح وجود يد للموساد الإسرائيلي خاصة مع اختفاء مسودة الكتاب الجديد. !!

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

قطوف من "في ظلال القرآن"

إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب. صلة يستمد منها القلب قوة ، وتحس فيها الروح صلة وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا

********

إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء. وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى.

*******

لا قيمة لقول بلا عمل. إن العمل هو المعتبر. أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة ، وهي مناط الحكم والتقدير.

********

إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس ، وتفتح له من أبواب المعرفة ، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان. ومن ثم يجد فيه الهدى ، كما يستروح فيه البشرى

*********

إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور. جل أم صغر.

********

إن الطريق واضح ، والصراط مستقيم .. فإما العلم الذي جاء من عند اللّه. وإما الهوى في كل ما عداه.
وليس للمسلم أن يتلقى إلا من اللّه. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب. وما ليس من عند اللّه فهو الهوى بلا تردد.

الثلاثاء، 30 يونيو 2009

الفاروق عمر.. أسطورة ديمقراطية



جاء النبي صلي الله عليه وسلم إلي الدنيا بمنهاج فغيرها وشكل رجالا كانوا أساطير في سيرتهم, استمرت القافلة تسير في طريق العدل طوال أربعين عاما بعد الهجرة , ثم انحرفت القافلة أو قل جعلوها تنحرف , وتم تغيير وتبديل.. وفي أيامنا ..نحتاج إلى أن نعود إلى منابع القافلة لنسير معها وفي ركابها مرة أخري.


كانت الطامة الكبري التي أصابت المسلمين في جميع عصورهم هي السياسة , ونظام الحكم , وكان غريبا أن يتقدم مسلمي القرون الوسطي في شتي مجالات الحياة ويتخلفوا سياسيا .. والسبب بسيط فقد أراد حكام بني أمية والعباس أن يستأثروا بالحكم بدعوي أنهم خلفاء للرسول.


وفي السطور القليلة القادمة نقرأ في أيام عمر بن الخطاب أثناء توليه أمور المسلمين, واترك للقارئ الكريم الحكم بنفسه.


في عام 1961 أصدر الكاتب الإسلامي خالد محمد خالد كتابه "بين يدي عمر" في محاولة منه لتأصيل الديموقراطية في الإسلام, محتذيا بنموذج فريد تمثل فى حياة الفاروق، فعرض علينا بأسلوبه الساحر تجربة عمر بن الخطاب في الحكم والتي دامت لعشر سنوات.


ماذا تقول لربك غدا...؟


تمثلت حياة عمر ومنهاجه فى تقواه التى استمدها من مراقبته لله فى كل أفعاله، فكان يضع ربه أمامه فى كل فعلة يفعلها ، و كل لقمة شهية يأكلها, و تتساقط دموعه أمام كل شربة باردة وكل ثوب جديد ..تلك الدموع التي تركت تحت مقلتيه خطين أسودين من فرط بكائه ويصلصل داخل نفسه هذا النذير : "ماذا تقول لربك غدا ؟".


هذا هو جبار الجاهلية وعملاق الإسلام!

هذا هو أمير المؤمنين الذى تفتحت لجيوشه أقطار الدنيا.

ها هو ذا يؤم الناس في الصلاة فيسمع بكاءه أصحاب الصف الأخير.


عمر خليفة


يقول خالد محمد خالد في كتابه: "لقد كانت أغلي أمانيه أن يظل عمر بن الخطاب, لا غير .. فلا هو خليفة ولا هو أمير".

ولقد اقتربت منه الخلافة بعد وفاة النبي, إذ بسط أبو بكر يمينه في اجتماع السقيفة قائلا: هات يدك يا عمر نبايع لك..لكن عمر خلص منها ناجيا, وقال: بل إياك نبايع فأنت أفضل مني.

فقال أبوبكر: "أنت أقوي مني يا عمر".

ورد عليه عمر: "أن قوتي لك مع فضلك" , وسارع وبايع أبوبكر.


وحينما ودع أبوبكر الدنيا, وعهد لعمر بالخلافة .. كان يتقبل مكرها, مع كرهه لها تيقناً منه بأنها مسئولية خطيرة .. ولولا علمه بأنه سيحاسب أمام الله إذا رفض تحمل أمانة المسلمين فى هذا الوقت الحرج لفر منها.

تري كيف قضي تلك السنوات والأشهر الستة والأيام الأربعة التي قضاها خليفة للمسلمين؟ تري كيف قضاها وهو تحت هذا الضغط الشديد من خشية الله سبحانه وتعالي؟

لقد كان يرتجف كعصفور إذا قال له أحد: اتق الله .


وكان يقول رحمه الله: " إذا نمت الليل أضعت نفسي, وإذا نمت النهار ضيعت الرعية", ويسأل كل من يلقاه في لهفه: قل لي بربك ولا تكذبني: كيف تجد عمر...؟ أتحسب الله عني راضيا ..؟ أتراني لم أخن الله ورسوله فيكم؟؟

وإذا غشيته من مظنة التقصير غاشية , صاح صيحة مكتومة : "يا ليت أم عمر لم تلد عمر"!


وعامل عمر نفسه كأنه أحد أفراد الشعب الذي يحكمه, وحين أصاب المسلمين أزمة شديدة في اللحم والسمن؛ أدمن أكل الزيت حتى أن أمعاؤه تئن وتقرقر, فيضع كفه علي بطنه ويقول: أيها البطن لتمرنن علي الزيت ما دام السمن يباع بالأواقي.


مع أهله


اذا تأملنا فى حياة عمر مع أهله وأسرته وجدناه مقدسا للمسئولية , مجلاً لأهله ... ومع ذلك كان لا يحرمهم مما ليس لهم بحق فحسب, بل من حق لهم مشروع خوفا عليهم !

ويحُملهم من المسئوليات أضعاف ما يحمله نظراؤهم من الناس، حتي صار القرب من عمر عبئا يود أصحابه لو استطاعوا منه الفرار.


يدخل يوما دار ابنه عبد الله فيجده يأكل شرائح لحم فيغضب ويقول له :

"ألأنك ابن أمير المؤمنين تأكل لحما, والناس في خصاصة !؟ ألا خبزا وملحا ؟ ألا خبزا وزيتا؟

ويخرج يوما إلى السوق فيري إبلاً سماناً تمتاز عن بقية الإبل بنموها وامتلائها فيسأل: إبل من هذه؟

قالوا: إبل عبد الله بن عمر

فينتفض أمير المؤمنين كـأنما رأى قيامته ويقول:

عبدالله بن عمر؟؟ بخ بخ يا بن أمير المؤميين؟

وأرسل في طلبه وأقبل عبدالله يسعي, وحين وقف بين يدي والده قال له: ما هذه الأبل يا عبدالله؟

فأجاب: أنها إبل هزيلة اشتريتها بمالي وبعثت بها الي المرعي أتاجر فيها

قال عمر في تهكم لاذع: ويقول الناس حين يروُنها ..ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين ..اسقول إبل ابن أمير المؤمنين ..وهكذا تسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين.

ثم صاح به: يا عبد الله بن عمر, خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل, واجعل الربح في بيت مال المسلمين.

وهنا يعلق خالد محمد خالد علي هذه القصة قائلا: يا خالق هذا الإنسان , سبحانك !!!

إن عبدالله لم يأت أمرا نكرا, إنما يستثمر ماله الحلال في تجارة حلال, وهو بدينه فوق كل شبهة, ولكن لأنه بن أمير المؤمنين يحرمه ابوه, مظنة أن تكون بنوته قد هيأت له من الفرص ما لا يتوافر لغيره من الناس.


مسئوليته عن الناس


كان عمر يري نفسه مسئولا مسئولية مباشرة عن كل رجل في سربه..عن كل أمرأة في بيتها ..عن كل طفل رضيع في مهده.. وهو يبدأ مسئوليته تجاه الناس بأن يعيش في أدني مستويات معيشتهم, فاذا دُست عليه لقمة متميزة قال "بئس الوالي إن أنا طعمت طيبها, وتركت للناس عظامها".


وانتقلت هذه المسئولية إلى الأموات, وحينما زار الشام جئ له بطعام طيب, مختلف ألوانه, فدمعت عيناه وقال: كل هذا لنا, وقد مات إخواننا فقراء لا يشبعون من خبز الشعير؟؟


وفي عام الرمادة يسمع عن جماعة في أقصي المدينة قد نزل بهم الضر أكثر من غيرهم, فيحمل فوق ظهره جرابين من دقيق ويحمل خادمه قربة مملوءة بالزيت ثم يهرولان إلى هناك ليحملان النجدة والغوث.. ويطهو عمر بنفسه الطعام حتي يطعموا .


مع الولاة


كان عمر يدقق في اختيار الولاة والعمال, حيث كان يعد نفسه مسئولا عن كل غلطة يرتكبها أحد ولاته علم بها عمر أو لم يعلم.


وكانت أولي خطواته في اختيار الولاة استبعاد كل راغب في المنصب طامح اليه, لأن الذي يحمل شهوة الحكم يحمل شهوة التحكم.. ولضمان تحقيق العدل جعل الحاكم تحت رقابة المحكوم, وكان يحقق بنفسه وعلي الفور فى كل شكوي يشكوها مواطن من حاكم.


وجاء على عمر يوما وفد من مصر, وفيه فتي مكروب يقول له أن محمد بن عمرو بن العاص والي مصر قد أوجعه ضربا لأنه سابقه فسبقه, فعلا ظهره بالسوط وهو يقول خذها أنا ابن الأكرمين..!!

ويرسل أمير المؤمنين يدعو عمرو بن العاص وابنه محمدا, ولندع أنس بن مالك يروي لنا النبأ فيقول: فوالله إنا لجلوس عند عمر وإذا عمرو بن العاص يُقبل في إزار ورداء فجعل عمر يتلفت باحثا عن ابنه محمد فإذا هو خلف ابيه.. فقال: أين المصري؟

قال: هأنذا يا أمير المؤمنين.

قال عمر: خذ الدرة, واضرب بها ابن الأكرمين.

فضربه حتي أثخنه ونحن نشتهي أن يضربه فلم ينزع حتي أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه, وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين.

ثم قال لعمرو بن العاص "يا عمرو, متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا؟

والتفت إلى المصري: انصرف راشدا, فإن رابك ريب فاكتب إلي.


أمانة عمر


كانت القيامة تقوم اذا سمع عمر أن درهما واحدا من الأموال العامة قد اخُتلس أو انُتهب أو أنُفق في ترف أو إسراف, وكان يرتجف وكأن خزائن المال كلها ضاعت وليس درهما أو بعض درهم.


ها هو ذا يعدو وراء بعير أفلت من معطنه, ويلقاه علي بن أبي طالب فيسأله : إلى أين يا أمير المؤمنين؟

فيجيبه: بعير ند من إبل الصدقة أطلبه!

فيقول له علي:" لقد أتعبت الذين سيجيئون بعدك..."!

فيجيبة عمر بكلمات متهدجة: "والذي بعث محمدا بالحق, لو أن عنزا ذهبت بشاطئ الفرات, لأخُذ بها عمر يوم القيامة ..."!


الشوري


لا يوجد حاكم في التاريخ رفع من قدر الشوري مثلما رفعها عمر, وقد نالت الديمقراطية من ذلك الرجل بخير فرص التألق والازدهار, لم يحاول عمر أن يفرض رأيه أو أن يملي مشيئته ولم ينفرد ساعة من نهار بحكم الناس دون أن يشركهم في مسئولية هذا الحكم.


وكان يحذر من قول الرأي الذي يوافق رأيه قائلا " لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، وقولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق".

والشوري والمعارضة عند أمير المؤمنين هما جناحا الحكم الصالح القويم.


يصعد عمر المنبر يوما فيقول: "يا معشر المسلمين, ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا هكذا"؟

فيشق الصفوف رجل ويقول وهو يلوح بذراعه كأنها حسام ممشوق: إذن نقول بالسيف هكذا.

فيسأله عمر: إياي تعني بقولك؟؟

فيجيب الرجل: نعم إياك أعني بقولي.

فتضئ الفرحه وجه عمر ويقول "رحمك الله.. والحمد لله الذي جعل فيكم من يقوم عوجي"!!

لم يكن هذا الموقف من أمير المؤمنين استعراضيا, إنما كان ينشد من ورائه الوصول إلى الحق والطمأنينة إلى أنه يحكم أمة من الأسود لا قطيعا من النعاج.


في يوم , وهو جالس مع أخوانه يخترق الصفوف رجل ثائر ملء قبضته شعر محلوق ولا يكاد يبلغ عمر حتي يقذف بالشعر في صدره في مرارة واحتجاج، ويموج الناس بالغضب ويهم به بعضهم فيؤمي إليهم عمر ثم يجمع الشعر بيده ويشير للرجل فيجلس وينتظر عمر حتي يهدأ روعه ثم يقول له:

والأن ما أمرك ؟؟

فيجيب الرجل وقد عادت إليه ثورته: أما والله, لولا النار يا عمر ..!!

فيقول عمر: صدقت والله.. لولا النار..!! ما أمرك يا أخا العرب؟

ويقص الرجل شكوته, وفحواها ان أبا موسي الأشعري أنزل به عقوبة لا يستحقها, فجلده وحلق شعر رأسه بالموسي, فجمع الرجل الشعر وجاء به إلي عمر.

فينظر عمر إلى وجوه أصحابه ويقول:

لأن يكون الناس كلهم في قوة هذا أحب إلى من جميع مما أفاء الله علينا.

ثم يكتب لأبي موسي يأمره أن يُمَّكن الرجل من القصاص منه جلدا بجلد وحلقا بحلق.


تواضعه


لم يكن عمر يستهويه التمايز, ولا يمكن أن يجد راحة نفسه وغبطتها إلا في البساطة المتناهية, وفي الحياة "بين" الناس لا "فوق" الناس.

فهو يجلس حيث انتهي به المجلس ..ليس له مكان صدارة يختص به نفسه, وهو ينام حيث يدركه النوم, فوق الحصيرة في داره, أو فوق الرمال تحت ظل النخيل..!! وهو يأكل ما يجد , وما يقيم الأود لا غير ..شريحة من اللحم المقدد , أو شريحة من الخبز مبللة بالزيت متبلة بالملح..!!

وهو سعيد حين يسمع امرأة أو غلاما يناديه: يا عمر

وهو في سعادة لو علمها ملوك الأرض لحسدوه عليها , حين يري عجوزا تحمل مكتلا يصعب عليها حمله, فيتقدم منها ويحمله, ويضحك ملء نفسه, وهو يسمعها وهي تقول له شاكرة :

أثابك الله الخير يا بني ..إنك لأحق بالخلافة من عمر..!!

تلك هي الأسطورة التي مشت علي أرض الحجاز، و قال عنها عبدالله بن مسعود " لله در ابن الخطاب أي امرئ كان..؟!.

الثلاثاء، 26 مايو 2009

أغيب و ذو اللطائف لا يغيب

أغيب و ذو اللطائف لا يغيب .


أغيب و ذو اللّطائف لا يغيبُ *** وأرجوه رجاء لا يخيبُ

وأســألــهُ السلامة من زمـان *** بـُليت به نوائبه تـُـشيـب

واُنزل حاجتي في كل حال *** إلى من تطمئن به القلوب

فــكـم لله من تدبير أمر *** طوته عن المشاهدة الـغيوب

وكم في الغيب من تيسير عسر *** ومن تفريج نائبة تنوب

ومن كرم ومن لطف خفي *** ومن فرج تزول به الكروب

ومَــنْ لي غير باب الله باب *** ولا مولا ً سواه ولا حبيب

كــريم منعم برّ ٌ لــطيف *** جميل السـتر للـداعي مجيب

حـليم لا يعاجل بالخطايا *** رحيم غيثُ رحمته يصوب

فيا ملك الملوك أقِـل عِثاري *** فإني عنك أنـأتني الذنوب

وأمرضني الهوى لهوان حظي *** ولكن ليس غيرك لي طبيب

فــآمِـن روعتي واكبت حسودا *** فــإن النائبات لها نيوب

وآنــسني بأولادي وأهلي *** فقد يستوحش الرجل الغريب

ولــي شجن بأطفال صغار *** أكــاد إذا ذكــرتهم أذوب

ولــكني نبــذت زمام أمري *** لـمن تدبيره فينا عجيب

هو الرحمان حـولي واعتصامي *** به وإليه مبتهلا أ ُتيب

إلــهي أنت تعلم كـيف حالي *** فهل يا سيدي فرج قريب

فــيا ديـان يوم الدين فرج *** هـموما في الفؤاد لها دبيب

وصل حبلي بحبل رضاك وانظر*** إليّ وتب علي عسى أتوب

وراع حـمايتي وتول نصري *** وشُـدّ عُراي إن عرت الخطوب

وألــهمني لــذكرك طول عمري *** فإن بذكـرك الـدنيا تـطيب

وقــل عــبد الرحــيم ومن يلــيه *** لهم في ريف رأفتنا نصيب

فظــني فيك يا سندي جميل *** ومرعى ذود آمــالي خصيب

وصــــلّ عـــلى النبي وآلـه *** ما تــرنّم في الأراك الــعندليب

الثلاثاء، 12 مايو 2009

سر توقف الإسلام في أفريقيا



قارة أفريقيا أحدي البقاع التي شهدت انتشارا كبيرا للإسلام, وهو ما حدا بالدكتور حمدان بالقول في كتاب سابق له بعنوان "أفريقيا الجديدة" قام بتأليفه في الستينات , يتنبأ فيه بتحول كل القارة السمراء إلى الإسلام ,, لكن للأسف شهد انتشار الإسلام بطئ نسبي ويفسر هنا هذا التراجع بقوله:

الظاهرة الحقيقية والحيرة للغاية هي الانقلاب الذي طرأ علي وضع الإسلام ودرجة تقبله أو رفضه في أفريقيا الجديدة بعد التحرر, فقديما كان التحول للإسلام يتم في سهولة وسلام وبإقبال شخصي شديد من أصحابه الذين يرونه وسيلة للتحرر والكرامة, لكن بعد التحرر السياسي وخروج الاستعمار حدث العكس, وأصبحت هناك عقدة نفسية ضد الإسلام ورفض حاد له باعتباره وسيلة لسلب الإنسان من حريته الشخصية.

لا شك أن أصابع الدول الاستعمارية خلق ذلك في الحالين, فقد كان الاستعمار لا يحارب الإسلام علنا أو مباشرة , ولكنه كان يحاصره بطرق غير مباشرة, فقد كان يعطي كل الفرص للوثنين المتنصرين أو المسيحيين من فئات الاستعمار , فكانوا "متأوربين" وجاهزين للسلطة والحكم حين ذهب الاستعمار بينما كان المسلمون في كتاتيبهم ودراساتهم الدينية لا يصلحون لشئ فعلا. وبعدها بدأت الدولة الجديدة تحارب الإسلام, فتحول من المد إلى الجزر.

الخميس، 7 مايو 2009

كونتا عمر كينتا..الزنجي الذي تحول إلى أسطورة











في بداية ربيع 1750 , وفي قرية "جوفور" علي مسيرة أربعة أيام من ساحل جامبيا في غرب أفريقيا ولد طفل ذكر لـ"عمر" "Omaro" و"بينتا كنت" مستمدا قوته من جسد بينتا القوي, وكان أسود مثلها تجري في عروقه دماؤها.

تلك كانت مقدمة رواية الجذور Roots للكاتب الأمريكي اليكس هايلي (1921 – 1992) الصادر عن مكتبة مدبولي في 730 صفحة من الحجم المتوسط, والجذور هي ملحمة عائلة أمريكية غير عادية لرجل يبحث عن أصوله, يحكي فيها اليكس قصة حياة جده الأفريقي كونتا كنتي وكيف تم أسره بواسطة تجار العبيد وبيع في أمريكا , صدرت هذه الرواية عام 1976, وترجمت إلى 37 لغة وبيع منها أكثر من 50 مليون نسخة وأصبحت أساسا لمسلسل تليفزيوني حمل نفس الاسم حقق نجاحا كبيرا.

كشفت الجذور عن الطريقة الهمجية التي مارستها أوروبا في اصطياد الأفارقة وبيعهم كعبيد في أوروبا وأمريكا للعمل بالسخرة في مزارع العبيد دون أن ينالوا أي حقوق أدمية, وكان للرواية صدي كبيرا في الأوساط الأمريكية والعالمية, وحفرت أسم كونتا كنتي في أذهان الملايين من شعوب العالم حتى أصبح رمز من رموز التمر علي العبودية... ولنقرأ سويا في الرواية:

فرح "عمر" بميلاد ابنه كثيرا, واختار له اسم "كونتا" وهو اسم جد الطفل "كيرابا كونتا كنتي" الذي جاء من موريتانيا إلى جامبيا حيث أنقذ أهل "جوفور" من المجاعة.. فقد أصيبت القرية بقحط شديد, حيث لم تكن هناك أمطار كثيرة كافية, ورغم أن الناس قد دعوا الله كثيرا إلا أن كل شئ كان يموت ويفني, ووقع المزيد من الناس مرضي, وترك البعض الأخر القرية هربا حتى أرشد الله خطوات الولي الصالح "كايرابا كونتا كنتي" إلى القرية فإنقاذها من الجوع.

عاش كونتا مع أسرته حياة هادئة, يسودها السلام, وفي جوانب العرض الرائع لاليكس هالي نلمح كيف كان سكان "جامبيا" يتمسكون بالإسلام , فعندما أصابهم يوما ما قحط فضلوا أن يموتوا جوعا علي أكل الخنازير.. وعندما بلغ كونتا السن التي تؤهله للعمل خرج لرعي بعض الماعز لوالده..وبعد الرعي يذهب إلى كتاب القرية لحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية.




أفريقيا..ليست شبح دخان

الشائع لدي الكثير منا أن أفريقيا هي غابات وأحراش يسكنها قوما لا يفقهون شيئا, قد كان للفكر الاستعماري دور في ترويج هذه الشائعات لخدمة أغراضه الاستعمارية.

ومن خلال قراءتنا للرواية يذكر هايلي الكثير عن الحضارة الأفريقية.. فالقوافل تجوب أفريقيا من الشمال إلى ساحل أفريقيا الغربي, يقول الكس: " لكن حتي "غانا" لم تكن أغني الممالك السوداء. بل كانت الدولة الأكثر ثراء علي الإطلاق والأقدم عمرا هي مملكة مالي . ومثل كل الإمبراطوريات والممالك كان لـ"مالي" مدنها ومزارعها وصناعها وحدادوها ودباغوها.

ولكن ثروتها الضخمة أتت من طرق التجارة البعيدة في الملح والذهب والنحاس, والمسافة إليها تستغرق أربعة أشهر من السفر طولا ومثلها عرضا, وأعظم المدن هي المدينة الخرافية "تمبوكتو" وهي المركز الرئيسي الهام للتعليم في كل أفريقيا وكانت مسكونة بآلاف الطلبة ويزورها العديد من أفواج الزائرين من الحكماء بحثا عن زيادة معلوماتهم".

تجارة العبيد

حكت عجوز في القرية لكونتا عن تجارة العبيد فقالت: لقد هجم الرجال البيض ومعهم السود الخونة علي قريتها, أشعلوا النيران فيها, ومن نجا من النيران واستطاع الهرب من لهيبها وجد في انتظاره المغيرون البيض ومعهم الخونة السود, ويتم اقتيادهم في وحشية, أما الذين جرحوا بشدة أو العجائز أو الصغار ممن لا يستطيعون السفر فيقتلوا أمام أعين الأخرين.

ويتم ربط المساجين المساكين من رقابهم معا بالحبال ويقتادوا عبر الجو الحار والقاسي لعدة أيام, ومن يبطأ في حركته يسقط السوط علي ظهره, وبعد أيام قليلة كان المزيد من المأسورين يسقطون من الجوع والارهاق, والبعض قاوم, ومن لم يستطع المقاومة يتم تركه فريسة للحيوانات المتوحشة.

ولأن البيض كانوا أكبر مصدر للخطر فقد حرص "عمر" على تحذير ابنه من الخروج بمفرده إلى مكان بعيد عن القرية, وتحدث عمر مع ولديه "كونتا" و"لامين" شقيق كونتا فقال لهم أنه و شقيقيه "جانيه" و"سولوم" قررا الذهاب في رحلة ليروا مع يفعل "الطوبوب" – وهو الأسم الذي كان الأفريقيين يطلقوه علي الرجال البيض – وسار الإخوة الثلاثة علي طول ضفتي نهر "كامبي بولونجي" – نهر جامبيا- إلى أن عثروا علي عشرين زورقا ضخما, ويقوم البيض بوضع الأسري في "زرائب" طويلة من البامبو عليها حراسة قوية, وعندما تحضر الزوارق الصغيرة فإن الناس المسروقين يجرون خارج تلك الزرائب علي الرمال وقد حلقت رؤوسهم وطليت أجسامهم بالشحوم لتلمع, ويقوم البيض بفحص أسنان السود, والتفتيش علي الأجزاء السرية للرجال والنساء, ثم يدفعونهم بأختام معدنية حامية علي ظهورهم وأكتافهم وبعد ذلك يشحن الناس وهو يقاومون ويصرخون فوق الماء حيث تنتظرهم زوارق صغيرة لتنقلهم إلى الزوارق الكبيرة. ومن يقاوم أثناء وجوده في الزورق ويسقط في الماء يكون فريسة سهلة لأسماك القرش.

تدريبات الرجولة

وصل كونتا الآن إلى سن العاشرة, وتخرج في كتًاب القرية بعد ان نجح في كتابه اسمه باللغة العربية وقرأ بعض آيات من القرآن الكريم, وأنتقل كونتا ورفاقه من نفس السن بعدها إلى مكان بعيد عن القرية ليتلقوا فيه تدريبات الرجولة.. حيث كان سكان جامبيا قد تعودوا في ذلك الزمن على ارسال أولادهم إلى معسكر خاص يشرف علي تدريب أولادهم ليصبحوا رجالا أشداء يعتمد عليهم ويتحملوا بعدها تكاليف الحياة.. وقد ساعدت التدريبات التي تلقاها "كونتا" حينما صار عبدا في أمريكا.

في الأسر

صلي كونتا صلاة الفجر وأخذ نفسا عميقا وانطلق نحو المجري المائي بسرعة ومعه كلبه "الوولو" من أجل البحث عن خشب في الغابة يصلح كاطار لطبلته.

وجد جذعا منحنيا واعتقد أنه المطلوب عندما سمع رفرفة حادة لجناحين تبعها بسرعة صياح ببغاء فوق رأسه, استدار بسرعة وفي لمح البصر رأي وجه أبيض مندفعا نحوه وهراوة تٌرفع وسمع صوت خطوات ثقيلة خلفه.. دخل كونتا في معركة غير متكافئة مع عدد من الرجال.. بذل أقصي ما يستطيع ليفلت منهم..غرس اسنانه في لحمهم وأدخل أصابعه في عيونهم ..ويهوي فرع الشجرة علي رأس كونتا..أخذ يحاول الوقوف علي قدميه وهو يتلوي بوحشية ويحاول التملص ليهرب من المزيد من ضربات فرع الشجرة والدماء تسيل من رأسه المشقوق..تساءل : كيف لم يسمعهم ولم يشمهم ولم يحس بهم؟

مرة أخري يصطدم فرع الشجرة برأس كونتا..كان رأسه علي وشك الانفجار وجسده يرتجف والغضب يتملكه من ضعفه وتراجع للخلف وزأر وهو يطير في الهواء وكل شئ أصبح غير واضح.. إنه يقاتل الآن من أجل أكثر من حياته من أجل عمر وأمه بينتا وأشقاه..اصطدم فرع الشجرة برأس كونت أصبح كل شئ اسود.


في قبر السفينة

هذا هو الجزء الذي وصفه الكس هالي بأنه كان أصعب جزء علي نفسه عند كتابة "الجذور" , كيف يصف في كلمات رحلة العذاب الطويلة التي تقطعها السفينة من ساحل أفريقيا إلى ساحل أمريكا الشرقي.. رحلة تمتد لعدة أشهر عبر محيط متقلب الأجواء وفي مكان أقل ما يوصف أنه قبر. ولنقرأ في الرواية:

استيقظ كونتا ليجد نفسه نائما علي ظهره بين رجلين آخرين في حفرة من الظلام مملوءة ببخار الحرارة والرائحة القذرة التي تصيب بالمرض.. وهرج مجنون من الصراخ والعويل والتوسل والقئ.. كان كل جسده كتله من الألم والضرب الذي تلقاه لمدة أربعة أيام. وفي ثورة الغضب العارم أخذ كونتا يشد ويركل الكلبشات التى تربط وسطيه وعقبيه, ومد رأسه لأعلي فاصطدمت بالخشب ..انصت السمع فسمع المزيد من الصرخات ولكنها كانت مكتومة وآتيه من أسفل ألواح الحشب المتشققة التى استلقي فوقها.. انصت بانتباه أكثر وبدأ يتعرف علي مختلف اللغات. وفوق كل اللغات جاءت صيحة بالعربية من أحد "الفولاني":
- الله في السماء ساعدني.

أجبرت الرائحة النتنة كونتا علي اخراج ما بطنه..تساءل أي خطيئة ارتكبها ويعاقب عليها بهذه الطريقة؟ توسل الى الله ان يجد أجابة. كان يكفيه خطيئة أنه لم يصل مرة واحدة منذ الصباح الذي ذهب فيه إلى الغابة ليصنع طبلته . ورغم أنه لا يستطيع أن يقعد علي ركبتيه ولا يعرف حتي اين اتجاه القبلة فإنه أغمض عينيه حتي استلقي وصلي طالبا مغفرة الله.


رفض كونتا الطعام الذي يقدم له ..لم يكون طعاما إنما شئ صلب لا تتحمله المعدة.. كانت رحلة عصيبة, عاني فيها المحبوسون من آلام الأسر , والجوع , الرائحة النتنة من قياءهم وبولهم وبرازهم, وقرصات قمل الجسد, امتلا كل المحبس بالقمل والبراغيث, والفئران ضخمة الحجم التي كانت تعض الجروح المتقيحة.

الوصول إلى أمريكا

وصلت السفينة لورد ليجونيار Lord Lingonier إلى ميناء أنابوليس في 29 سبتمبر 1767, سيطرت علي كونتا فكرة الهرب لكنه تذكر صوت مدربه في معسكر الرجولة: الرجل الحكيم من يتعلم من الحيوانات التي تقع في الأسر فتبدو أنها استسلمت حتى توفر طاقتها وفي الوقت المناسب تلوذ بالفرار من صيادها.

وفي المزاد, قام جون وولر بشراء كونتا بمبلغ 850 دولارا, كان كونتا يعلم فقط أن عليه أن يهرب من هذا المكان المخيف أو يموت في المحاولة. لم يجرؤ علي الحلم أن يري "جوفور" مرة ثانية ولكن إذا فعل فقد أقسم أن كل جامبيا ستعلم كيف تبدو أرض "الطوبوب".. حاول الهرب أربعة مرات.. وبعد كل محاولة هرب فاشلة يتعرض لأقسي أنواع التعذيب لكنه يصر علي الهرب.. رفض أن يأكل من لحم الخنزير حتى لو مات جوعا ..حرص يوميا علي التوجه بالصلاة إلى الله ليساعده علي نيل حريته ..بعد أن فشل في محاولة الهرب الثالثة وأصيبت قدمه بطلق ناري فكر في محاولة جديدة للهرب..أختبأ في عربة لنقل التبغ..أحس بالسعادة حينما وجد نفسه يقفز من صندوق العربة دون أن يلاحظه أحد ..اختبأ داخل دغل, وظل يجري نحو الشرق نحو أفريقيا, لكن كيف يعبر المياه العظيمة, ليكن معه الله, لكن ما هذا؟ أنه يسمع نباح كلاب ..هل عثروا عليه مرة أخري؟ استدار ووقف في فسحة صغيرة, كان ممسكا بفرع شجرة في يده اليمني, وأشاح بالفرع في وجه الكلاب فتقهقرت بعيدا عنه, كان مطارديه رجلان من البيض الذين يصطادوا السود الذين يهربون من أسيادهم.

دخل في معركة معهم وضرب احد الرجلين بحجر في وجهه, فمرقت رصاصة بجوار أذن كونتا والكلاب أصبحت فوقه, وضربه احدهم بكعب البندقية في رأسه, صارعوه بعنف نحو شجرة ومزقوا ملابسه وخلعوها عنه وقيدوه بقوة حول جذع الشجرة, وأمسك أحد البيض بفأس صغيرة وأشار إلى قدم كونتا, وأمسك الأخر بسكين وأشار بها إلى جهازه التناسلي, صرخ كونتا صاح في أعماق نفسه أن أي رجل ليكون رجلا يجب أن يكون له أبناء .. وطارت يد "كونتا" لتغطي أعضاءه..وهوت الفأس علي قدم كونتا فأطاحت بمقدمتها وصار كل شئ مظلما.

غضب السيد ويليام وولر من قطع قدم كونتا فقام يشراءه من أخيه.. وعالجه من الجرح...وفي مزرعة استطاع "كونتا" أو "توبي" كما كانوا يطلقون عليه أن يبدأ حياة جديدة ويتاقلم بعض الشئ مع السود الذين يعملون في نفس المزرعة

وتكشف "الجذور" عن المعاناة التي قاساها الأفارقة في ظل العبودية.. يقول اليكس "كانت كل القوانين في أمريكا تصب ضد مصلحة السود, فإذا ضبط أبيض زنجي يحاول الهرب يمكنه أن يقتله ولا عقاب عليه, ولا يسمح القانون للزنوج بحمل السلاح أو حتى عصا, ويقول القانون عشرين جلدة إذا تم أمساك أسود دون تصريح سفر, وعشر جلدات إذا نظر إلى البيض في عيونهم, وثلاثين إذا رفع يده ضد مسيحي, ولا جنازة لزنجي حتى لا تنقلب لاجتماع, ويقول القانون تقطع أذن الزنجي إذا اقسم الناس البيض انك تكذب والأذنان إذا ادعوا أنك تكذب مرتين, والقانون يقول إذا قتلت ابيض تشنق وإذا قتلت زنجيا أخر تجلد"


الجذور

تزوج كونتا في سن الـ39 من "بيل" الطاهية في المنزل الكبير, وأنجب منها بنتا في 12 سبتمبر 1790 اسماها "كيزي"..كانت تقريبا في نفس سواده, وأصر كونتا علي تعليم ابنته كل شئ عن أفريقيا, لكنه شعر بالغضب الشديد عندما أردت أمها ان تذهب بها للكنيسة لتعميدها.. وفي كل جولة كانت تخرج معه الطفلة كان يسمي لها الأشياء بلغة المانديكا .."أشار إلى نهر صغير ضحل كانا يمران به فقال "بولونج" وأخبرها أنه في وطنه كان يعيش بالقرب من نهر يسمي "كامبي بولونجي".

وعندما بلغت "كيزي" تعرفت علي "نوح", وهو شاب يكبرها بسنتين..فكر نوح في الهرب إلي الشمال ومن هناك يستطيع أن يعمل ويشتري حرية كيزي..وافق كونتا علي ذلك بشرط أن لا تدخل كيزي في عملية الهرب لكن نوح احتاج على تصريح مرور ليقدمه للسلطات اذا اعترضت طريقة فقامت كيزي بتزوير التصريح..لكن السلطات اكتشفت التزوير وقامت بتعذيب نوح حتى اعترف أن "كيزي" هي التي كتبت التصريح.. وحينما علم سيدها بالأمر أصر علي بيعها.

أصيب كونتا بالصدمة حينما سمع الخبر, أنها ابنته الوحيدة..حاول أن ينقذها بكل ما يستطيع "انقذني يا والدي" فأمسك بالسلاسل في جنون ..عندها دوت رصاصة من مسدس الشريف بجوار أذن كونتا فوقع علي ركبته وأحس برأسه يكاد ينفجر..هجمت "بيل" علي الشريف فلطمها بقوة أطاحت بها على الأرض وقام بحمل كيزي ووضعها في العربة وانطلق بها مهرولا..حاول كونت ان يتشبث بالعربة وراح يجري وراءها في ذهول حتي اختفت السيارة ..لقد ذهبت كيزي ولن تعود ..ولن يراها مرة اخري.

ومن هذه النقطة لن تحدثنا الرواية عن باقي حياة كونتا كنتي ..كانت سنه آنذاك 55 سنه.. وتنتقل بنا الرواية لتحكي لنا المأساة التي تعرضت لها كيزي..فقد اشتراها سيد جديد من ولاية كارولينا اسمه توم لي..كان مجرد أفاق حتى نجح في جمع ثروة من مصارعة الديوك ..في الليلة الأولي لكيزي في مزرعة توم لي قام باغتصابها بطريقة وحشية, واستمر يمارس ذلك لسنوات .

أنجبت كيزي ولدا في شتاء 1806 ..كانت تتمني ان تسميه كونتا أو كنتي ..لكنها خشت غضب سيدها ..الذي أطلق علي الصبي اسم "جورج", وصمتت كيزي أنها تجعل حفيدا لرجل أفريقي مهما كانت وضاعة منبته ومهما كانت كان لونه فاتحا ومهما كان الاسم الذي سيطلق عليه .

وعندما بلغ جورج سن الثالثة بدأت كيزي تحكي لابنها عن جده الأفريقي "أنه طويل وبشرته سوداء كالليل ويميل الى الوقار الشديد, لقد جاء علي سفينه قادمة من أفريقيا إلى مكان يسمي نابلس , وبيع إلى السيد جون وولر لكنه حاول الهرب مرات , وفي المحاولة الأخيرة قبضوا عليه وقطعوا جزءا من قدمه" .."يا بني ..أنني أمتني لو كنت استمعت له وهو يغني لي تلك الأغنيات الأفريقية أثناء ركوبنا عربة السيد , وكان يحلو له أن يسمي الأشياء بأسمائها الأفريقية مثلا "الكمان" كو ko أو يسمي النهر كامبي بولونجو". وقد أصبح هذا تقليدا في ذرية كونتا كنتي يقوم الأب أو الأم بتلقين الأطفال كل شئ عن تاريخ جدهم الأفريقي.

وأخيرا الحرية

في 1861 اندلعت الحرب الأمريكية بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية التي تمسكت بالحق في استعباد الأفارقة, أسست هذه الولايات ما سمي الولايات الكونفدرالية الأمريكية وأعلنت انفصالها عن باقي الولايات الشمالية, كانت أيام عصيبة علي ذرية كونتا وهي تتابع تطورت الحرب التي ستحدد مستقبلهم.

وفي 1862 أصدر لنكولن إعلان تحرير العبيد جاعلاً من تحرير العبيد في الجنوب هدفاً للحرب, وسري الخبر كالوميض بين ملايين الزنوج في الجنوب. وأخيرا في ابريل 1865 استسلم الجنوب وخرج الزنوج يقفزون هنا وهناك ويرقصون ويصيحون ويغنون صلاة الشكر لله "أحرار ..لقد أصبحنا أحرار يا ألهي".

شكرا لك يا سيد أبراهام لينكولن.

حجر رشيد والجذور

كيف جاءت فكرة كتابة الجذور؟ في عام 1962 أجري ألكس حوارا مع مالكوم أكس ونشر كتابا عنه بعنوان "ترجمة حياة مالكوم اكس" ..وبعد استشهاد مالكوم أكس سافر الكس إلى لندن وزار المتحف البريطاني , ووجد الكس نفسه ينظر مبهورا غلى حجر رشيد ..لقد عكف عليه العالم الفرنسي شامبليون قرابه عشرين عاما لحل لغز الحضارة المصرية ..يقول ألكس " وأعجبت بذلك المفتاح ..وبدأت احس ان له دلالة شخصية بالنسبة لي.. وأثناء عودتي بالطائرة إلى أمريكا هبطت عليه الفكرة فجأة: أن العالم الفرنسي تمكن من فك طلاسم لغة مجهولة وذلك بمعادلتها مع لغة معروفة".

استخدم الكس أسلوب مشابه بعض الشئ ..فالتاريخ غير المكتوب والذي سمعه من جدته واقاربه كان متضمنا تلك الكلمات أو الأصوات الغريبة غير المعروفة له : فقد قال جدي الأكبر أن اسمه كين تاي kin tay , وكان يطلق علي نهر بفرجينيا اسم "كامبي بولونجى" وقد تكون هذه الأصوات قد تعرضت لبعض التحريف بسبب تناقلها عبر الأجيال.

وبدأت رحلة البحث

بذل الكس جهدا كبيرا علي مدار 12 سنه للوصول إلى جذور عائلته وجده الأفريقي ..اتصل الكس بدكتور متخصص في الشئون الأفريقية, وأكد له أن الأصوات التي رواها جده تعتبر من لغة "ماندينكا" mandinka وأن كلمة كو ko هي آله موسيقية أفريقية وكلمة كامبي بولونجى تعني نهر جامبيا.

سافر الكس إلى دكار عاصمة السنغال وتقابل مع عدد من الرجال المسلمين المشهود لهم بسعة الاطلاع في تاريخ دولتهم , وأكدوا له أن كلمة كامبي بولونجو تهني نهر جامبيا , وان كلمة كين تاي kin – tay قد تكون تحريف للقب عشيرة كنتا الشهيرة في جامبيا, وبالتالي فعلى "الكس" أن يقابل أحد "الشعراء المؤرخون" وهم رجال طاعني في السن ويعدون بمثابة أرشيف حي متنقل للتاريخ غير المكتوب..يستطيع الواحد منهم أن يقص حكايات وتواريخ القري والقبائل والعائلات والعشائر والأحداث التي حدثت من قرون عديدة مضت بكل دقة علي مدي ثلاثة أيام متواصلة دون أي تكرار لما يقولونه.

وبالفعل عثر الرجال علي شاعر مؤرخ في قرية "جوفيور" وسافر الكس دون أن يعرف أنه يسافر إلى قرية جده الأفريقي.. قام الشاعر المؤرخ بعرض تلخيص جوهري لتاريخ عشيرة "كنتا" التي بدأت في "مالي القديمة"... وذات يوم هاجرت أحدي فروع العشيرة إلى دولة "موريتانيا" ثم قام أحد أبناء هذه العشيرة ويسمي "كيرابا كونتا كينتا" وهو رجل "مرابط" – من المرابطين أتباع الشيخ عبد الله بن ياسين – برحلة طويلة إلى أن وصل إلى الدولة التي تسمي جامبيا.. واستمر الشاعر يسرد باقي تاريخ آل كنتا إلى أن قال " وتزوج "عمر" من "بينتا كنت" وأنجبت له من عام 1750 إلى 1760 : كونتا – لامين – سوادو – مادي.

وفي حوالي الوقت الذي جاء فيه جنود الملك ذهب كونتا إلى مكان بعيد عن قريته لكي يقطع بعض الأشجار ولم يشاهده أحد بعد ذلك إلى الأبد..."

أصيب الكس بذهول شديد , فالشاعر قد أعاد علي سمعه ما سبق أن سمعه من نساء عائلته في ولاية تنيسي .. وحينما أخبر الشاعر أن كونتا هو جده الأفريقي الذي يبحث عنه فرحت جميع قرية "جوفيور", وذهب اليكس مع الرجال إلى المسجد الذي أدوا فيه الصلاة باللغة العربية, وكانوا يقولون " نحمد الله ونشكر فضله . فقد أعاد إلينا واحدا منا كنا فقدناه منذ أمد بعيد".

وفي 29 سبتمبر 1967 وقف الكس هايلي علي رصيف ميناء أنوبوليس في نفس اليوم الذي رست فيه السفينة التى جلبت جده من أفريقيا, وأصبح "كونتا كنتي" أحد رموز الثورة علي العبودية, وسار علي طريقه من بعده مالكوم أكس ومارتن لوثر كينج, وفي يناير 2009 دخل باراك أوباما البيت الأبيض كأول رئيس أمريكي اسود..لقد انتصر كونتا كنتي علي جلاديه.

ونختم عرضنا هذا بتوجيه تحية إلى أثنين, ألحا علي كثيرا أتناء قيامي بهذا العمل, الأول محرر العبيد الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن , والثاني الفاروق عمر, وأتذكر كلمته لوالي مصر عمرو بن العاص يعنفه لأن ابنه اعتدي علي قبطي " يا بن العاص ..متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".