الجمعة، 18 ديسمبر 2009

الهجرة النبوية دروس وعبر



إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له. وقد تنادي المسلمون في كل مكان : هلموا إلي يثرب!! . فلم تكن الهجرة تخلصا فقط من الفتنة والاستهزاء , بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. وأصبح فرضا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد , وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه , وأصبح ترك المدينة بعد الهجرة إليها نكوصا عن تكاليف الحق وعن نصر الله ورسوله , فالحياة بها دين , لأن الدين يعتمد على إعزازها.

بهذه الكلمات بدأ الشيخ محمد الغزالي حديثه عن الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرومة إلي يثرب "طيبة الإسلام" في كتابه القيم "فقه السيرة" والذي كتبه خلال جلسات روحانية بمدينة رسول الله وفي مسجده النبوي.

وبعد دعوة استمرت بمكة ثلاثة عشرة عاما عاني فيها الرسول والصحابة ما عانوه على أيدي أبو جهل وأبو لهب وأميه بن خلف وأشباههم من المكابرين, أذن الله لنبيه بالهجرة والتي أضحت بحق أعظم حركة قام بها فرد وكان لها أكبر الأثر في تغيير مجري حياة العالم الذي بدأ يتشكل من جديد متأثرا بالنور الذي انبثق من طيبة.

يصف الشيخ الغزالي رحمه الله الهجرة فيقول أنها لم تكن مجرد ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلي أرض مخصبة. بل كانت إكراه رجل آمنٍ في حياته مستقر في وطنه مكة على إهدار مصالحه، والتضحية بأمواله وإشعاره بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها. وبأنه يسير نحو مستقبل غامض. لا يدري ما يتمخض عنه من مشاق وأحزان.

كان صحابة رسول الله يغادروا مكة وكل فرد منهم يحمل أهله وولده وهو بذلك رضيَّ الضمير، وضّاء الوجه. كيف؟
إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة

كانت صعاب الهجرة لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك. أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلَّى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم: هاجروا مع رسولكم إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.
كان كل فرد منهم على استعداد – وبدون تردد - للتخلي عن كل ما يملك لكفار مكة. فقط يريد الرحيل مع الرسول. وضرب الصحابة أمثلة صارت كأنها أساطير. فعندما هم صهيب الرومي بالهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا.. ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك.

قال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟

قالوا: نعم.

قال: فإني قد جعلت لكم مالي.

فبلغ ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب!

وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة جماعات ووحداناً، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحي له حصن يحتمي به، وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته.
إن محمداً لا يزال في مكة، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها..

قريش في دار الندوة

اجتمع طواغيت مكة واتخذوا قرارهم بقتل محمد وتفريق دمه بين القبائل. وأخبر الوحي محمدا (صلي الله عليه وسلم) بما دبرته قريش وألقى في قلبه هذا الدعاء الجميل: "وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا".

لم يكن تأييد الوحي للرسول يعني له التفريط والاستكانة. ومن ثَمَّ فإنه صلَّى الله عليه وسلم أحكم خطة هجرته، وأعدَّ لكل فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء. لنأخذ من ذلك درسا في أسباب النجاح. فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل بعد ذلك على الله.
فإذا صب المرء كل جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة يبتلي بها. وقلّما يحدث ذلك إلا عن قَدَر قاهر يعذر المرء فيه!!

وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .

درس في سياسة الأمور

كان صلي الله عليه وسلم حريصا على كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.

وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء يتغلب به على المطاردين. ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فقد كان دليله مشركاً ولم يمنعه هذا من استخدامه والانتفاع بموهبته.

واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء وجودهم بالغار، ومهمة كل شخص.
ثم عاد الرسول إلى بيته، ليجد قريشا بدأت تضرب الحصار حوله وتبدأ في تنفيذ خطتهم الإبليسية في تفريق دم النبي بين القبائل.

وضرب على بن أبي طالب مثالا للشباب في الإيمان والشجاعة. فبات تلك الليلة الرهيبة وهو على سرير رسول الله يرتدي برده الذي ينام فيه.

وجاء موعد الهجرة.. وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس، خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ومنه إلي غار ثور.. الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع.

ما ظنك باثنين الله ثالثهما !!

أصيبت قريش بالصدمة بعدما أفلت رسول الله من بين أيديهم. كانوا قريش تدرك مقدار ما تمثله تلك الرحلة في مسيرة حياة مكة بل ومصير الجزيرة العربية. لذلك انطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق, يفتشون كل مهرب, ينقِّبون الجبال وكهوفها، حتى وصلوا قريباً من غار ثور.

أنصت الرسول وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله: "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

ويعلق الشيخ الغزالي رحمه الله على القول بأن قريش وجدت على باب غار ثور عنكبوت ناسجا لخيوطه وحمامه تضع بيضها بأن الجنود التي يخذل الله بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ".


ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون أعداءه وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرَّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان، ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى:
"وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".

في الصحراء إلي المدينة

ثلاثة أيام قضاها الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار، وبعدما خمد حماس المشركين في الطلب، وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة.

إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟.
ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها.

يحكي الشيخ الغزالي أنه يوما ومعه رفاق خرجوا في وهج الظهيرة فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارهم, فأغمضوا عيونهم يستبقوا منها ما خافوا ضياعه.

والسير في الصحراء ليس بالشيء اليسير الهين. فعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تظن أن العالم كله صحراء مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء.


لم تكن تلك هي المرة الأولي التي يقطع فيها رسول الله ذلك الطريق. إذ مر به وهو طفل صغير ذاهب مع أمه لزيارة قبر أبيه عبدالله ثم عاد وحده بعدما فقد أمه!.
إنه الآن يعود ويقطع نفس الطريق وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها...
إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه، لكن حزين للفظاظة التي قوبل بها، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف.

وشاع نبأ انطلاق رسول الله في جوانب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع. وترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة، فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصارهم إلى الأفق البعيد، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة. فإذا اشتد عليهم الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد، وملء جوانحهم الترقب، والقلق، والرجاء.

مرحبا مدينة رسول الله

وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة برز الأنصار على عادتهم في انتظار قدوم النور إلي مدينتهم. فلما حميت الظهيرة كادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم؛ حتى صعد رجل على مرتفع فرأي الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب، وتدنو بهم الرواحل رويداً رويداً إلى المدينة إلى وطن الإسلام الجديد.

وأسرع الأنصار يستقبلون رسولهم، ورُج التكبير أنحاء المدينة، ولبست "يثرب" حلة العيد ومباهجه: هذا رسول الله قد جاء.

يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف الناس! إن الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله، ولم ترجع عنه إلا مقهورة؛ استقبلته المدينة وهي جَذْلانة طروب، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد.

ليست هناك تعليقات: