الخميس، 31 أكتوبر 2013

اجعل الإنسانية هدفك (محمد علي.. الوجه القبيح )



اجعل الإنسانية هدفك

لم أستطع أن أعجب بشخصية محمد علي باشا , فالرجل بأفعاله وتجبره وضع بيني وبينه ألف حاجز!

صحيح أنه بني مصر الحديثة , وحجز لها مكانا بين أمم الشرق والغرب , فسطع اسمها من جديد بعد سنوات من الغرق في بحور النسيان أيام الحكم العثماني.. ورغم تلك النهضة , إلا أنه أهمل أهم ركن في تشييد الحضارات , وهو الإنسان.

فالباشا الكبير شاد القصور , وحفر الترع , وبث الحياة في التعليم , وأدار ماكينات المصانع , وأجري السفن في البحار والأنهار تحمل التجارة , وشاد إمبراطورية مصرية ضمت شبة الجزيرة العربية والسودان والشام وجزيرة كريت..
لكنه في سعيه لمجده هدم الإنسان المصري , وقتل روحه.

وإليك هذا النبأ لعلك تشاركني فيما أري..

فكر باشا مصر في إعادة شق ترعة المحمودية لتحمل الماء العذب إلى الإسكندرية , ولتصبح طريق تجاري بين القاهرة وميناء مصر على البحر المتوسط. وكانت الرمال والأتربة قد طمرت الترعة في الأزمان السابقة, فعزم الباشا على إعادة إحيائها , فانظر ماذا فعل؟

كلف الباشا زبانيته , فجاسوا خلال الديار , فساقوا أمامهم بالسياط أكثر من 300 ألف فلاح , مكبلين في الأغلال ! ليعملوا شهور طوال بالسخرة , يقتاتون على أقل الطعام .. تحرق حلوقهم حرارة الصيف.. ويجمد البرد أطرافهم في الشتاء.. وعلى ظهورهم تنطبع آثار السياط تنبئهم أن الجلاد لا يرحم من يتهاون في العمل!

وفي مدة عشرة أشهر فقط سقط اثنا عشر ألفا شهيدا , دفنوا على ضفتي الترعة تحت أكداس التراب الذي كان يرفعونه من قاعها , ومعظمهم مات من قلة الزاد والمؤونة أو من الإعنات في العمل بلا هوادة ولا رحمة من طلوع الفجر وحتى تغرب الشمس , وسوء المعاملة من الجنود القساة المنوط بهم حراستهم.

المؤرخ الجبرتي في كتابه البديع "عجائب الآثار" يصف في كلمات حزينة ما أصاب أبناء مصر على يد محمد على فيقول " كانوا يربطونهم قطارات بالحبال وينزلون بهم المراكب , وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم , وقاسوا شدة بعد رجوعهم من المرة الأولي بعدما قاسوا ما قاسوه , ومات الكثير منهم من البرد والتعب , وكل من سقط أهالوا عليه تراب الحفر ولو فيه الروح [1]".

أي وحشية  تلك؟! وأي حيوانية تسيطر على القلوب؟!

ومع تلك الصورة المحزنة , لن نعدم مؤرخا وكاتبا يدافع عن الحاكم - وأي حاكم - , معددا  الفوائد والثمرات التي جنتها البلاد من أعماله وكفاحه في أعمار البلاد وإصلاح أحوال العباد!!

وهؤلاء.. نهديهم تلك الكلمات..
تخيل لو كان جدك أحد هؤلاء المساكين الذين سقطوا إعياء , وهم يحملون الطين من قاع الترعة إلى ضفتها , فإذا التراب يهال عليه ليدفن حيا؟!
ولنعود بالمشهد قليلا إلى الوراء..
تخيل الآن..جند الباشا يهجمون على القرية الآمنة الساكنة , ينتزعون الفلاح من حقله .. يكبلونه بالسلاسل.. يسوقونه كالماشية .. ينظر بعين دامعة إلى أرضه.. من يعني بهما من بعده؟..ومن لولده وزوجه؟!..ومن يسد رمقهما؟!..وهل سيراهما ثانيا؟!..هل ستكتب له الحياة من جديد أم يدفن تحت التراب؟!

ما أقصده يا صديقي هنا.. ليس أن تكن الحقد على محمد على باشا , أو أي حاكم وسلطان وملك وأمير , وإنما أن تجعل الإنسان وبناءه وتشييده , هو معيارك للحكم والتقييم , فالإسلام جاء ليبني الإنسان ويكرمه , ويفضله على سائر المخلوقات , وليكون سيد الكون.

انظر يا صاحبي إلى النبي × في تعامله مع الإنسان وكيف سما به إلى مراتب الكرامة , وحتى ولو كان مشركا ..
الإمام مسلم في صحيحه يروي أن رسول الله × مرت به جنازة فقام واقفا , فقال له الصحابة: إنه يهودي!
فقال: "أليست نفسا".

ألا ما أروع هذا الموقف..

الحبيب × يعلمنا أن نحترم النفس الإنسانية على الإطلاق , حتى أنه قام واقفا لجنازة تحمل يهوديا , وحينما قال صحابته أنها ليهودي , أي من القوم الذين عدوك وحاولوا اغتيالك مرات عدة , وألبوا عليك قبائل العرب , قال لهم بمنطق حاسم " أليست نفسا".

إنه الاحترام للنفس الإنسانية.

وحينما يُقتل عمه حمزة في أحد , وتبقر بطنه وسبعين من صحابته الكرام , أقسم النبي × ليمثلن بجثث سبعين من قريش إذا ظفر بهم.. لكن النفس الموصولة بالسماء تستكين بعدل ربها.. وينزل قوله تعالي " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ".
هذا هو رسول الرحمة..

ومن بعده , جاء ملوك وسلاطين تسموا باسم الإسلام وزعموا أنهم يحكمون بشرعه , فإذا هم يستحلون القتل والتمثيل بالجثث..
ألم يكن غريبا ومدهشا في التاريخ الإسلامي وبلادنا الإسلامية أن يدخل رجلا على السلطان فيقول كلمة يغضب لها الجالس على العرش.. فيدفع الرجل حياته ثمنا لها..هكذا ببساطة وبأمر بسيط من السلطان يلق الناس موتهم دون تحقيق أو محاكمة أو قاضي عادل يستمع للقضية.

أيحدث هذا في بلاد الإسلام وباسم الإسلام!
ألا ما أبعد الشقة بين نبي الرحمة , والملوك الذين حكمونا باسم الإسلام!
يا صديقي
حديثي ليس نبشا في الماضي , فقد تكرر وسيتكرر في كل عصر , إذا تحزبنا نحن للحكام ندافع عنهم ونبرر لهم , لا أن نقول لهم أن دماء الناس "حرام عليكم كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا". كما أوصانا الحبيب × في خطبة الوادع , يلقي إلينا بالنبأ الهام لعلنا نحفظه ولا نضيعه.

الخلاصة: أعرف يا صاحبي مقدار حرمة النفس الإنسانية..ولا تكن أبدا ممن يسوغ لقتلها , فتكون من الظالمين.  

إضاءة جانبية:
مما يُروي أن الإمام أحمد بن حنبل - عليه رحمة الله - حينما كان مسجونا في محنة "خلق القرآن" بأمر من السلطان العباسي , سأله السجان: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام قولا يستحق كل التأمل والتدبر: لا.. إنما أعوان الظلمة من يخيطوا لك ثوبك , ومن يطهو لك طعامك..أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!
  
من كتابي 
عش سعيدا 
 


[1] - هل عجز محمد على عن تأجير من يعمل في حفر الترعة...أو تعامل مع فلاحي مصر بشئ أكثر من العدل والرحمة؟!!..أسئلة عديدة تحتاج إلى أجوبة..فالرجل كان مصرا على تحقيق ما يرفع البلد لا شئ إلا لأنها – في ظنه - ستكون ملكية خاصة له ولأبنائه من بعده.. فاستهان في سبيل أحلامه بالإنسان المصري وعده من جملة الرقيق والعبيد!!

مرسي والسيسي والصوفي ابن عطاء السكندري

الصوفي الجليل ابن عطاء الله السكندري لخص الفارق بين الرئيس محمد مرسي والخائن الدموي السيسي في جملة واحدة..

يقول ابن عطاء " أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت له طامع".
مرسي لم يسعي للسلطة ، وكان مرشح "احتياطي" للمهندس خيرت الشاطر (استبن في لغة ال.........)
ترتيبه كان الثالث عشر في قائمة المرشحين.
آخر المرشحين دخولا في مجال الدعاية الانتخابية
ورغم ذلك كتب له القدر أن يصبح أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، بإرادة حرة من المصريين.

أما السيسي ، فهو مجرد خائن وسفاح ، مهما نظروا وبرروا ما يفعل.
هدفه الوحيد: السلطة ثم السلطة. حتى لو داس على كل الثوابت والمبادئ.

لو كان الرسول حيا !


كان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان , رضي الله عنه , يوما في الكوفة بالعراق يحدث أهلها عن الحبيب محمد صلي الله عليه وسلم , فقال له فتي من أهلها : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ فقال حذيفة: نعم يا بن أخي , فقال الفتي : فكيف كنتم تصنعون ؟ , قال: والله لقد كنا نجتهد , فقال الفتي , كاشفا عن سر حديثه ذلك: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض , ولجعلناه على أعناقنا!


سكت حذيفة قليلا , وسرح بخاطره إلى معركة قاسية , وحرب ضروس , عاشها مع النبي , فتمثلت أمامه جيوش المشركين من قريش وغطفان ويهود تحيط بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل , كموج المحيط الهادر يريد أن يقتحم المدينة المنورة فيقتلع بيوتها , ويغرق الإيمان في بحور النسيان.

عاودت تلك الذكريات حذيفة , وموقف شاهده بأم عينيه , فقص نبأه على الفتي الكوفي , فقال له : يا بن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله بالخندق , فصلي صلي الله عليه وسلم من الليل , ثم التفت إلى صحابته الكرام , فقال: من رجل يأتيني بخبر القوم – يقصد المشركين- وله الجنة؟, كان الله قد أرسل ريحا شديدا في تلك الليلة , اقتلعت خيام المشركين , وكبت قدورهم , وأطفأت نيرانهم , وأراد النبي أن يستيقن من أمرهم , فطلب من جنده أن يذهب أحدهم مختارا , ويعبر الخندق ليستطلع نبأ القوم , ويضمن له النبي العودة سالما , وفوق ذلك الجائزة الكبرى: الجنة , لكن لم يرد أحد, فلم تكن الليلة كما سواها من الليالي, في شدة بردها وسوادها.

كرر النبي نداءه: من يأتي بخبر القوم ويكون رفيقه في الجنة , فلم يسمع النبي إلا أصوات الرياح تجاوبه , فكرر الثالثة , فحظي بنفس الجواب , فما كان منه إلا أن اختار, وكان المختار هو حذيفة.

لما سمع حذيفة اسمه , لم يجد بدا من أن يقوم , ولندعه يقص علينا نبأ ما كان: " فذهبت فدخلت في القوم والريح , وجنود الله تفعل ما تفعل لا تقر لهم قدر ولا نار ولا بناء... ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام.... فارتحلوا فإني مرتحل".


ترًي ماذا كان رد فعل الشاب الكوفي المتحمس حينما استمع إلى حديث حذيفة؟!

ذاك ما لا تخبرنا عنا الكتب التي نقلت حديث حذيفة.

وأريد هاهنا أن نتوقف متأملين أمام تلك القصة التي حملت معاني عدة.. فها هم أولاء الصحابة , بشر من لحم ودم , يعرفون الخوف أحيانا , وهم ليسوا كائنات ملائكية نورانية نزلت من السماء !

هم بشر كسائر الناس , ولكنهم سموا ببشريتهم , وتربوا في مدرسة الرسول , ووعوا آيات القرآن , فارتقوا في مدارك الكمال.

دعك ممن يحدثك عن أنك مهما فعلت لن تصل إليهم..لا تعيره سمعك كي لا يصيبك اليأس والإحباط..
فهم بشر مثلنا , أصابوا وأخطئوا , ولكنهم علمونا الدرس: إذا أذنبا فلنسارع إلى التوبة..

وإذا كان الصحابة هم خير القرون التي ظهرت على الأرض , وكحلوا أعينهم برؤية الحبيب , وأي مني للقلب أن يعيش مع الحبيب , لكن النبي أيضا اشتاق إلى رؤيتك إذا سرت على دربه.

كان الرسول الكريم يوما جالسا مع أصحابه فقال لهم: وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانِي ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانِي قَوْمٌ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ.


فالذين يؤمنون بالإسلام ونبيه في هذا العصر ويحافظون على شعائر الدين ضد هجوم شياطين الأنس والجن لهم عند الله ونبيه مكانة ومنزلة خاصة..
اشتاق النبي إلى من يري هذا القابض على يدينه كالجمر..
"ومن العبث التطلع إلى عصر الصحابة , ولكن الرجولة والحزم في استغلال الواقع المتاح في إدراك منزلة حسنة عند الله" كما يقول الشيخ الغزالي عليه رحمة الله.

فإذا ما طمحت لرؤية الحبيب..فهو أيضا ينتظرك ويشتاق إليك...ولكي تفوز برؤيته عليك بالتدبر في الكتاب الذي تلقاه وحيا من السماء , وجاهد ليبلغك دعوة ربك..وأن يكون هو قدوتك , وبوصلتك في الحياة التي توجه بها سفينتك كي تصل بك إلى شاطئ النهاية السعيد..حيث يقف على الحوض منتظرك, في شوق الحبيب إلى حبيبه..لتشرب من يديه شربة لا تظمأ بعدها أبدا.



من كتابي عش سعيدا


الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

نابليون أمام أسوار موسكو .. وكلماتت رائعة



وقف نابليون أمام أبواب موسكو , بعد أن أعيت جيوشه التي اكتسحت أوروبا كلها ثم وقف مدها أمام أسوار تلك المدينة , وبدأت موجة نابليون في الهبوط , وخبا نجمه الذي تألق في سماء العسكرية الأوروبية .. بعدما ارتكب خطأ عمره في الزحف على روسيا التي تمتاز بمساحتها المترامية الأطراف , وعاصمتها التي تختفي وسط أراضي شاسعة تحتاج لكي تصل إليها إلى خوض معركتك أولا مع جنرال المساحة بما يعنيه من امتداد خطوط التموين والإمداد للجيوش الغازية , وجنرال الشتاء الذي تسبب فيما بعد في تجميد غرور هتلر , وقتل 9 من كل 10 جنود ألمان قضوا نحبهم في الحرب العالمية الثانية.

وحينما علم نابليون أن الفشل أدركه , وأنه ارتكب خطأ عمره وقف على أبواب موسكو يقول : لو أن التاريخ أخذ في اعتباره الأخطاء وحدها , ولم يسجل المنجزات التي حققها الرجال , فلن نجد رجلا واحدا يمكن أن نقول عنه أنه كان رجلا عظيما ".


 والتاريخ وحده ليس مطالب بغض العين أحيانا على المثالب , وإلقاء بعض ضوءه على الإيجابيات والمنجزات , إنما نحن أيضا في حياتنا وعلاقتنا مع بني البشر نحتاج إلى عين تكل عن العيوب , وتحتفي بالإيجابيات ولو كانت بسيطة .

رسولنا صلي الله عليه وسلم أبان لنا كل كلنا خطاء , ليس منا معصوم من الزلل , والخطأ .. لهذا يقول الحبيب صلي الله عليه وسلم " يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه".. وهو قول بلغ من البلاغة القمة .. فالقذى هو ما يقع في العين من تراب أو أذي , وهو الأشياء الصغيرة التافهة التي لا تكاد تذكر , يبصرها الإنسان ويركز عليها جل اهتمامه فيراها وقد تضخمت وتعملقت ,  بينما هو يحمل جذع نخلة في عينه , وكأنه ينقب عن عيوب الآخرين , وينسي عيوبه هو.

كن صيادا للمواهب





لم يتمتع بطفولة مترفة.. فقد كانت أسرته فقيرة , ينوء كاهل عائلها بستة من الأولاد , وكان هو السابع.. الأب والأم يكدحان طوال اليوم لتوفير الطعام لتلك الأفواه الجائعة.. ولاحظت الأم الحنون أن أصغر أبناءها يملك ذكاء متقدا , وعينا تنم على أن صاحبها سيكون له شأنا عظيما , وعقلا لا يكف عن التفكير , والتساؤل .. فعزمت على الاقتصاد من قوت البيت لإرساله إلى المدرسة, وهناك حدث ما لم تتوقع وكاد يطفئ عبقريته قبل أن تضيء.

في المدرسة, كان طفلا غريب الأطوار, كثير الشرود , كثير الأسئلة , فضاق به معلموه , ولم يكد يمر عليه سوي 3 أشهر حتى ضاق المعلم به زرعا وقال له: "أنت غبي..ولا فائدة من وجودك في المدرسة".

كلمات المدرس كانت كالسكين الذي جرح نفس الصبي الصغير , وبعين باكية قص الصبي على أمه ما حدث.. فذهبت نانسي إليوت Nancy Matthews Elliott  بطفلها إلى المدرسة لمناقشة رأي المعلم .. وأكدت أن ابنها عقلا ذكيا يدفعانه دوما للسؤال , فجاء رد المعلم قاسيا " ولكني لا أري أثرا لتلك النباهة يا سيدتي!!" . كانت تلك العبارة نهاية علاقة العبقري الصغير بمقاعد الدراسة.

تحدت الأم ذلك المعلم.. وأقسمت أن تجعل من ابنها عبقريا تفخر به البشرية. وفي البيت.. وفرت له كل السبل للقراءة , اقتطعت من قوت أسرتها , لتشتري الكتب والمجلات والجرائد.
وأثمرت الشجرة.. وتطايرت الأنباء عن ذلك العبقري الذي لا يكف عقله عن إخراج المخترعات التي تذهل الناس , حتى بلغ عددها أكثر من ألف اختراع.
وكلما غربت الشمس وراء الأفق , وأضاءت الكهرباء .. قدمت البشرية الشكر لذلك العبقري الذي اخترع المصباح الكهربائي, وأحال الليل إلى نهار.. أنه توماس إديسون. أحد أعظم المخترعين في تاريخ أمريكا.

بعد النجاح الذي وصل إليه, يقول إديسون: 
"أمي هي التي صنعتني , كانت واثقة من قدراتي , ولذلك شعرت بأن هناك شيئا أعيش من أجله , شخص يجب إلا أجعله يشعر بالإحباط".
فكن عزيزي الأب ..عزيزتي الأم.. من صائدي المواهب..
أعدا أبنائكما لينضما إلى قائمة العباقرة والأذكياء والموهوبين..
وأعلما أن..
الطاقات والقدرات التي يتمتع بها الطفل ليست دائما معدة للانطلاق ليصنع بها وتصنع به ما يشاء , إنما هي بذرة تظل كامنة في داخله تحتاج لمن يراعها ويقدم لها سبل الحياة فتشق الطريق نفسها وتنمو وتزهر.

ولا يجب أن يترك استكشاف المواهب والقدرات لظروف الحياة , لابد للأب أو الأم أن تبحث عنها في كل فرصة وكل مناسبة , حتى إذا التقي بها قدم لها وسائل الرعاية والاهتمام لتواصل طريقها إلى عام النور.

فإذا كان ابنك يتمتع بذوق فني ويحب الرسم فقدم له أدوات الرسم والألوان, وإذا كان يعشق مجال الكمبيوتر فأنر له الطريق ليصبح عبقريا تطبق شهرته المشارق والمغارب.. إذا كان صوته حسن في تلاوة القرآن فأرعاه وشجعه, ومن كان خطه جميل, فنمي موهبته بالتشجيع والثناء.

فالموهبة إذ لم تجد من يراعها ويحتضنها ذبلت وخمدت فيها روح الحياة..

في الرابع من سبتمبر 1998 عرف العالم أعظم وأكبر شركة في مجال الإنترنت.. شركة "جوجل" على يد كل من لاري بيدج larry page  وسيرجي برن Sergey Brin, رغم أنهما كانا مازالا طالبين في جامعة ستانفورد.

لكن البداية الحقيقة لجوجل تعود قبل هذا التاريخ بسنوات..
في عيد ميلاده التاسع, والذي يوافق 21 أغسطس, تسلم سيرجي برن هدية من والده.. جهاز كمبيوتر.. في وقت كان يعد امتلاك ذلك الجهاز يعد نادرا لارتفاع ثمنه.  
فكانت تلك بداية غرام ذلك العبقري بمجال الحاسب وتطبيقاته.


أما لاري بيج , فقد تشرب عشق الكمبيوتر من خلال والده الذي شجعه على مواصله الطريق الذي بدأه هو , فقد كان كارل بيج يعمل أستاذا في مجال علوم الكمبيوتر , ويعد رائدا في علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي.  


وحتى يبدع الطفل..
يحتاج إلى الشعور بشيئين؛ كما أخبرنا الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه "تأسيس عقلية الطفل", وهما: الأمان والحرية .. "ويتوفران من خلال اهتمام الأسرة وتعاملها مع أبنائها على أنهم كائنات فاعلة ومستقلة , مع تجنب إصدار الأحكام القاسية عليهم مثل وصمهم بالغباء أو عدم امتلاك الأهلية للنجاح.. الطفل المبتكر يحتاج إلى بيئة يشعر فيها بالدفء والحنان من قبل الكبار" وعدم مصادرة حريته في التعبير والحركة.

الكلمات السابقة تحذير من قتل المواهب بالعقاب النفسي والبدني. والأول خطره أشد؛ فلا يؤلم الجسد، ولكنه يحطم الروح والنفس، ويغتال أجمل المواهب, ويئد المشاعر والأحاسيس في مهدها.

فهل أنت من قاتلي المواهب أم من صائديها؟!!

قراءة في رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي



في 10 نوفمبر 1920 وفي قرية مصرية صغيرة بأحضان الريف المصري ولد الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي, وعلى مدار حياته التي امتدت إلي 10 نوفمبر 1989 حمل بين جنبيه الحب للخير والعدل وللقرية المصرية – أصل الحياة.

تنوعت كتابات الشرقاوي ما بين الرواية والشعر والصحافة والتراجم الإسلامية. ومن أهم رواياته: "الأرض" و"الشوارع الخلفية". ومن أهم مسرحياته "مأساة جميلة" و"الفتى مهران" و"الحسين ثائرا" و" الحسين شهيدًا". ومن أهم السير والتراجم: "محمد رسول الحرية" و"ابن تيمية الفقيه المعذب" و"أئمة الفقه التسعة".

تخرج الشرقاوي في كلية الحقوق وعمل في الصحافة، ورغم انتقال الشرقاوي من القرية إلي حياة المدينة بكل صخبها وضجيجها إلا أنه ظل مخلصاً لانتمائه الأصلي وظلت قضية "الفلاح" هي الهاجس الإبداعي المؤرق له, فأبدع رائعته "الأرض" التي بدأ كتابتها في جريدة المصري, أشهر الجرائد المصرية في أوائل الخمسينات, قبل أن تصدر في كتاب عام 1954 , وتتحول بعد ذلك إلي فيلم سينمائي شهير حمل نفس الاسم عام 1970 من إخراج يوسف شاهين وبطولة النجم الكبير محمود المليجي وعزت العلايلي.

ونال الفيلم تقدير النقاد, وتم اختياره ليتصدر قائمة أفضل عشرة أفلام في تاريـخ السيـنما المصـرية، وذلـك في استفتاء أجـرته مجــلة "فنـون" المصرية في عام 1984. كما عٌرض في العديد من العواصم والمهرجانات العالمية.

أضافت "الأرض" كثيرا إلى الرواية العربية واعتبرها العديد من النقاد النموذج الأبرز لمذهب الواقعية الاشتراكية. حيث قدمت القرية المصرية ــ ولأول مرة ــ بعيدا عن النظرة الرومانسية التي صورتها جنة زاهية ينعم فيها الفلاح بالسكينة وراحة البال أو كما كان يقول محمد عبد الوهاب في أغنية شهيرة "ما أحلاها عيشة الفلاح ..مطمن باله مرتاح"، ليضع الشرقاوي أيدينا على ما كان يصيب الريف وناسه من تناقضات الإقطاع والاحتلال والفساد ، التي وصلت بهم إلى حدود الصراع من أجل البقاء.

يمكننا أذن أن نقول أن الشرقاوي في روايته الأرض أعاد رسم صورة القرية المصرية بعيدا عن الرومانسية التي صورتها رواية "زينب" – أول رواية مصرية. 

يقول الشرقاوي في الأرض: "كنت استرجع دائما كتاب "الأيام " و"إبراهيم الكاتب" و "زينب".
وكنت أري في قريتي أطفالا عديدين أكل الذباب عيونهم كالقرية التي عاش فيها صاحب الأيام . وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى بلا متاعب, كالقرية التي عاشت فيها زينب ..الفلاحون فيها لا يتشاجرون على الماء , والحكومة لا تحرمهم من الري ولا تحاول أن تنتزع منهم الأرض أو ترسل إليهم رجالا بملابس صفراء – الهجانة - يضربونهم بالكرابيج , والأطفال فيها لا يأكلون الطين ولا يحط عليهم الذباب على عيونهم الحلوة.

.. وكانت قريتي هي الأخرى جميلة كقرية "زينب" وأشجار الجميز والتوت تمتد على جسرها وتلقي ظلالها المتشابكة على ماء النهر. وكان النهر في الظهر يبدو تحت أشعة الشمس كصفحة من فضة وفي الأصيل يبدو من ذهب وفي الليل مختلجا قاتما يتسكع في طريقة إلي المجهول كالحياة في قريتي.
ولم تعرف قرية زينب زهو النصر وهي تتحدي القضاء والإنجليز والعمدة والحكومة وتنتصر لبعض الوقت.
ويعقد الشرقاوي مقارنة بين زينب ووصيفة – جميلة القرية-  فيقول " وزينب التي لم تكن أبدا على الرغم من كل شئ جميلة كوصيفة .. لم تذهب إلي قاعة الطحين ذات يوم لتعود إلي أمها باكية كما صنعت وصيفة عندما رأيتها لأول مرة بعد أن انقطعت عن رؤيتها طوال شهور الصيف"

تدور أحداث الرواية في قرية الشرقاوي وبالتحديد في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي, حينما كانت الأزمة المالية العالمية تضرب بشدة دول العالم, في نفس الوقت الذي تضرب فيه حكومة صدقي باشا الجماهير التي تطالب بالحرية والاستقلال.

كانت حكومة صدقي من أسوأ الوزارات التي حكمت البلاد والعباد بالحديد والنار, فقد حلت البرلمان وصادرت الحريات, فكانت العداوة الدائمة بين الجماهير وحكومة حزب الشعب.

كان من ضحايا الحكومة محمد أبو سويلم شيخ الخفراء حينما رفض تزوير الانتخابات بتسجيل أسماء الموتى في الكشوف, فكان جزاءه الفصل من وظيفته , فلم يتبق له سوي الأرض يتقوت بها .. كيف يتصرف وقد أراد محمود بيه – وهو يمثل صورة الإقطاعي الظالم – تقليل نوبة ري الأرض في القرية من 10 أيام إلي خمسة فقط. ليحرم أرض الفلاحين من المياه لتحظي بها أرضه الواسعة.

كيف يتصرف الفلاحين البسطاء حينما تتعرض أرضهم للموت عطشا؟ يتحدي أبو سويلم ومعه عبد الهادي ودياب وفلاحين القرية قرارات حكومة الشعب ويكسروا جسر الترعة ليروا أرضهم . وتأتي الحكومة بالفعل لتكبل جميع "العصاة" بالأغلال ويقادوا إلي سجن المركز حيث يتعرضوا لأشد أنواع التعذيب. 

ولا تنتهي أزمة الري حتى يفاجأ الفلاحين بلعبة جديدة حبكها محمود بيه, فقد جمع أختام من الفلاحين بحجة حل مشكلة المياه وقدمها إلي الحكومة باعتبارها طلبا لمد طريق جديد يصل ما بين قصره الجديد وعاصمة الإقليم. كانت القرية تتوجس من الزراعية الجدية التي ستأتي لتبتلع الأرض التي عندهم كل الأمس واليوم وكل الغد.

كانت الزراعية بمثابة الخنجر الذي سيقتل الحياة في أرض أبو سويلم. مسكين هذا الرجل. فصلوه من وظيفته والآن يريدون قتله من خلال اغتصاب الأرض.
 
يمثل أبو سويلم شخصية الفلاح المتمسك بأرضه , الفلاح الصامد الذي يستطيع مواجهة كافة القوي لكي يظل متشبثا بأرضه, الفلاح الذي يظل وافيا لمبادئه ولا تغيره الأيام والليالي .

في عام 1919 رفع الفلاحين الفؤوس في أكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر. كان أبو سويلم بطل الثورة في قريته وشاركه الكفاح الشيخ يوسف والشيخ حسونة والشيخ الشناوي – شيخ المسجد. لكن تُري ماذا فعلت بهم الأيام بعد انتهاء ثورة 1919؟.

الشيخ يوسف لم يكمل تعليمه في الأزهر وفتح دكانا في القرية, بل كان الدكان الوحيد في القرية, واستغل حاجة الناس وتحول إلي برجوازي لا يراعي ما تمر به قريته من ظروف تهدد حياتها بل يسعى بجد لكي يحتل منصب العمدية لكي يربي القرية من جديد, وهو لا يتحرج من البيع إلي عمال الزراعية التي ستغتصب ارض القرية .
والشيخ الشناوي, وقدمته الرواية كمثال لرجل الدين الذي يتعاون مع الحاكم الظالم ويسهل له ظلمه, فلسانه سليط , يردد كلمات لا يفهمها , يسعد بالأكل والعيش بجوار من بيده السلطة.
أما الشيخ حسونة, أقرب صديق لقلب أبو سويلم, عمل مدرسا وشارك في ثورة 19, ولمعارضته نقلته الحكومة إلي مكان بعيد عن قريته, وحينما يعود إليها في الإجازة يشارك قريته ما يصيبها من أحداث.

لكن الشيخ حسونة والذي يعيش علي أمجاده السابقة سرعان ما يتخلى عن القرية في أشد محنتها ولا ينتظر حتى تنتهي أزمة الزراعية التي ستلتهم أرض صديقه ويعود إلي عمله بمجرد الإجازة.

أما في الفيلم فلا يكتفي يوسف شاهين بذلك بل يقدم الشيخ حسونة – لاحظ عزيزي القارئ أنه يحمل لقب شيخ – في صورة الخائن لأهل بلده بعدما تخلي عن أهل قريته ويتفق مع البيه. مقابل ماذا؟ مقابل أن تتفادي الزراعية أرضه.

الآن .. من تبقي مع محمد أبو سويلم؟ تخلي عنه الرفقاء القدماء, وفشل تحالف القرية في الوقوف أمام بطش الحكومة.
يحاول عبد الهادي ووصيفه وأبو سويلم ومحمد أفندي ودياب جمع القطن قبل أن يدهسه عمال الزراعية فتضيع السنة على هباء علي أبو سويلم - ذلك الفلاح الثائر, لكن رجال الشرطة لا يتركونه ويقتادونه إلي السجن.

ضاعت الأرض من أبو سويلم, ويقدم عبدالرحمن الشرقاوي نهاية تقول لنا أن محمد أبو سويلم لن يستسلم, فربما من التعويض الذي سيحصل عليه يقوم ببناء ماكينة طحين كبيرة ليبدأ رحلة الكفاح من جديد .

أما الفيلم فقد قدم نهاية مختلفة كانت أكثر روعة , بل هي من أفضل نهايات أفلام يوسف شاهين , ولا يمكن لمن شاهد فيلم "الأرض"، أن ينسى تلك اللقطة الختامية لمحمد أبو سويلم وهو مكبل بالحبال والخيل تجرُّه على الأرض وهو يحاول التشبث بجذورها.

ربما كانت تلك النهاية تحمل معاني أكثر رمزية, لأن إنتاج الفيلم كان في عام 1970 أي في وقت كانت فيه إسرائيل تحتل جزءا عزيزا من وطننا , فكانت رسالة الفيلم أن نضحي ولو بأرواحنا من أجل "الأرض".


رواية الأرض لم تنهي بعد..
في السبعينات من القرن الماضي ترك الفلاح المصري أرضه وسافر إلي دول الخليج مع الثورة النفطية ليعود من بعدها ليقتلع بنفسه الأشجار والثمار ويخلف مكانها أعمدة من الخرسانة . وكان هذا أغرب وأول تحول في علاقة الفلاح مع أرضه منذ بدأت فجر الحضارة علي ضفاف النيل.

وتلك الجريمة مازالت مستمرة تحت سمع وبصر المسئولين. كل يوم بلادنا تخسر من أرضها الكثير, ونخشي أن يأتي يوما نصحو فيه من غفلتنا فلا نجد أرضا نرتكن إليها في مواجهة الحياة, ونضطر إلي الاستيراد ثم الاستيراد حتى نموت , لكن ليس كموت محمد أبو سويلم.