الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

قراءة في رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي



في 10 نوفمبر 1920 وفي قرية مصرية صغيرة بأحضان الريف المصري ولد الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي, وعلى مدار حياته التي امتدت إلي 10 نوفمبر 1989 حمل بين جنبيه الحب للخير والعدل وللقرية المصرية – أصل الحياة.

تنوعت كتابات الشرقاوي ما بين الرواية والشعر والصحافة والتراجم الإسلامية. ومن أهم رواياته: "الأرض" و"الشوارع الخلفية". ومن أهم مسرحياته "مأساة جميلة" و"الفتى مهران" و"الحسين ثائرا" و" الحسين شهيدًا". ومن أهم السير والتراجم: "محمد رسول الحرية" و"ابن تيمية الفقيه المعذب" و"أئمة الفقه التسعة".

تخرج الشرقاوي في كلية الحقوق وعمل في الصحافة، ورغم انتقال الشرقاوي من القرية إلي حياة المدينة بكل صخبها وضجيجها إلا أنه ظل مخلصاً لانتمائه الأصلي وظلت قضية "الفلاح" هي الهاجس الإبداعي المؤرق له, فأبدع رائعته "الأرض" التي بدأ كتابتها في جريدة المصري, أشهر الجرائد المصرية في أوائل الخمسينات, قبل أن تصدر في كتاب عام 1954 , وتتحول بعد ذلك إلي فيلم سينمائي شهير حمل نفس الاسم عام 1970 من إخراج يوسف شاهين وبطولة النجم الكبير محمود المليجي وعزت العلايلي.

ونال الفيلم تقدير النقاد, وتم اختياره ليتصدر قائمة أفضل عشرة أفلام في تاريـخ السيـنما المصـرية، وذلـك في استفتاء أجـرته مجــلة "فنـون" المصرية في عام 1984. كما عٌرض في العديد من العواصم والمهرجانات العالمية.

أضافت "الأرض" كثيرا إلى الرواية العربية واعتبرها العديد من النقاد النموذج الأبرز لمذهب الواقعية الاشتراكية. حيث قدمت القرية المصرية ــ ولأول مرة ــ بعيدا عن النظرة الرومانسية التي صورتها جنة زاهية ينعم فيها الفلاح بالسكينة وراحة البال أو كما كان يقول محمد عبد الوهاب في أغنية شهيرة "ما أحلاها عيشة الفلاح ..مطمن باله مرتاح"، ليضع الشرقاوي أيدينا على ما كان يصيب الريف وناسه من تناقضات الإقطاع والاحتلال والفساد ، التي وصلت بهم إلى حدود الصراع من أجل البقاء.

يمكننا أذن أن نقول أن الشرقاوي في روايته الأرض أعاد رسم صورة القرية المصرية بعيدا عن الرومانسية التي صورتها رواية "زينب" – أول رواية مصرية. 

يقول الشرقاوي في الأرض: "كنت استرجع دائما كتاب "الأيام " و"إبراهيم الكاتب" و "زينب".
وكنت أري في قريتي أطفالا عديدين أكل الذباب عيونهم كالقرية التي عاش فيها صاحب الأيام . وتمنيت لو أن قريتي كانت هي الأخرى بلا متاعب, كالقرية التي عاشت فيها زينب ..الفلاحون فيها لا يتشاجرون على الماء , والحكومة لا تحرمهم من الري ولا تحاول أن تنتزع منهم الأرض أو ترسل إليهم رجالا بملابس صفراء – الهجانة - يضربونهم بالكرابيج , والأطفال فيها لا يأكلون الطين ولا يحط عليهم الذباب على عيونهم الحلوة.

.. وكانت قريتي هي الأخرى جميلة كقرية "زينب" وأشجار الجميز والتوت تمتد على جسرها وتلقي ظلالها المتشابكة على ماء النهر. وكان النهر في الظهر يبدو تحت أشعة الشمس كصفحة من فضة وفي الأصيل يبدو من ذهب وفي الليل مختلجا قاتما يتسكع في طريقة إلي المجهول كالحياة في قريتي.
ولم تعرف قرية زينب زهو النصر وهي تتحدي القضاء والإنجليز والعمدة والحكومة وتنتصر لبعض الوقت.
ويعقد الشرقاوي مقارنة بين زينب ووصيفة – جميلة القرية-  فيقول " وزينب التي لم تكن أبدا على الرغم من كل شئ جميلة كوصيفة .. لم تذهب إلي قاعة الطحين ذات يوم لتعود إلي أمها باكية كما صنعت وصيفة عندما رأيتها لأول مرة بعد أن انقطعت عن رؤيتها طوال شهور الصيف"

تدور أحداث الرواية في قرية الشرقاوي وبالتحديد في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي, حينما كانت الأزمة المالية العالمية تضرب بشدة دول العالم, في نفس الوقت الذي تضرب فيه حكومة صدقي باشا الجماهير التي تطالب بالحرية والاستقلال.

كانت حكومة صدقي من أسوأ الوزارات التي حكمت البلاد والعباد بالحديد والنار, فقد حلت البرلمان وصادرت الحريات, فكانت العداوة الدائمة بين الجماهير وحكومة حزب الشعب.

كان من ضحايا الحكومة محمد أبو سويلم شيخ الخفراء حينما رفض تزوير الانتخابات بتسجيل أسماء الموتى في الكشوف, فكان جزاءه الفصل من وظيفته , فلم يتبق له سوي الأرض يتقوت بها .. كيف يتصرف وقد أراد محمود بيه – وهو يمثل صورة الإقطاعي الظالم – تقليل نوبة ري الأرض في القرية من 10 أيام إلي خمسة فقط. ليحرم أرض الفلاحين من المياه لتحظي بها أرضه الواسعة.

كيف يتصرف الفلاحين البسطاء حينما تتعرض أرضهم للموت عطشا؟ يتحدي أبو سويلم ومعه عبد الهادي ودياب وفلاحين القرية قرارات حكومة الشعب ويكسروا جسر الترعة ليروا أرضهم . وتأتي الحكومة بالفعل لتكبل جميع "العصاة" بالأغلال ويقادوا إلي سجن المركز حيث يتعرضوا لأشد أنواع التعذيب. 

ولا تنتهي أزمة الري حتى يفاجأ الفلاحين بلعبة جديدة حبكها محمود بيه, فقد جمع أختام من الفلاحين بحجة حل مشكلة المياه وقدمها إلي الحكومة باعتبارها طلبا لمد طريق جديد يصل ما بين قصره الجديد وعاصمة الإقليم. كانت القرية تتوجس من الزراعية الجدية التي ستأتي لتبتلع الأرض التي عندهم كل الأمس واليوم وكل الغد.

كانت الزراعية بمثابة الخنجر الذي سيقتل الحياة في أرض أبو سويلم. مسكين هذا الرجل. فصلوه من وظيفته والآن يريدون قتله من خلال اغتصاب الأرض.
 
يمثل أبو سويلم شخصية الفلاح المتمسك بأرضه , الفلاح الصامد الذي يستطيع مواجهة كافة القوي لكي يظل متشبثا بأرضه, الفلاح الذي يظل وافيا لمبادئه ولا تغيره الأيام والليالي .

في عام 1919 رفع الفلاحين الفؤوس في أكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر. كان أبو سويلم بطل الثورة في قريته وشاركه الكفاح الشيخ يوسف والشيخ حسونة والشيخ الشناوي – شيخ المسجد. لكن تُري ماذا فعلت بهم الأيام بعد انتهاء ثورة 1919؟.

الشيخ يوسف لم يكمل تعليمه في الأزهر وفتح دكانا في القرية, بل كان الدكان الوحيد في القرية, واستغل حاجة الناس وتحول إلي برجوازي لا يراعي ما تمر به قريته من ظروف تهدد حياتها بل يسعى بجد لكي يحتل منصب العمدية لكي يربي القرية من جديد, وهو لا يتحرج من البيع إلي عمال الزراعية التي ستغتصب ارض القرية .
والشيخ الشناوي, وقدمته الرواية كمثال لرجل الدين الذي يتعاون مع الحاكم الظالم ويسهل له ظلمه, فلسانه سليط , يردد كلمات لا يفهمها , يسعد بالأكل والعيش بجوار من بيده السلطة.
أما الشيخ حسونة, أقرب صديق لقلب أبو سويلم, عمل مدرسا وشارك في ثورة 19, ولمعارضته نقلته الحكومة إلي مكان بعيد عن قريته, وحينما يعود إليها في الإجازة يشارك قريته ما يصيبها من أحداث.

لكن الشيخ حسونة والذي يعيش علي أمجاده السابقة سرعان ما يتخلى عن القرية في أشد محنتها ولا ينتظر حتى تنتهي أزمة الزراعية التي ستلتهم أرض صديقه ويعود إلي عمله بمجرد الإجازة.

أما في الفيلم فلا يكتفي يوسف شاهين بذلك بل يقدم الشيخ حسونة – لاحظ عزيزي القارئ أنه يحمل لقب شيخ – في صورة الخائن لأهل بلده بعدما تخلي عن أهل قريته ويتفق مع البيه. مقابل ماذا؟ مقابل أن تتفادي الزراعية أرضه.

الآن .. من تبقي مع محمد أبو سويلم؟ تخلي عنه الرفقاء القدماء, وفشل تحالف القرية في الوقوف أمام بطش الحكومة.
يحاول عبد الهادي ووصيفه وأبو سويلم ومحمد أفندي ودياب جمع القطن قبل أن يدهسه عمال الزراعية فتضيع السنة على هباء علي أبو سويلم - ذلك الفلاح الثائر, لكن رجال الشرطة لا يتركونه ويقتادونه إلي السجن.

ضاعت الأرض من أبو سويلم, ويقدم عبدالرحمن الشرقاوي نهاية تقول لنا أن محمد أبو سويلم لن يستسلم, فربما من التعويض الذي سيحصل عليه يقوم ببناء ماكينة طحين كبيرة ليبدأ رحلة الكفاح من جديد .

أما الفيلم فقد قدم نهاية مختلفة كانت أكثر روعة , بل هي من أفضل نهايات أفلام يوسف شاهين , ولا يمكن لمن شاهد فيلم "الأرض"، أن ينسى تلك اللقطة الختامية لمحمد أبو سويلم وهو مكبل بالحبال والخيل تجرُّه على الأرض وهو يحاول التشبث بجذورها.

ربما كانت تلك النهاية تحمل معاني أكثر رمزية, لأن إنتاج الفيلم كان في عام 1970 أي في وقت كانت فيه إسرائيل تحتل جزءا عزيزا من وطننا , فكانت رسالة الفيلم أن نضحي ولو بأرواحنا من أجل "الأرض".


رواية الأرض لم تنهي بعد..
في السبعينات من القرن الماضي ترك الفلاح المصري أرضه وسافر إلي دول الخليج مع الثورة النفطية ليعود من بعدها ليقتلع بنفسه الأشجار والثمار ويخلف مكانها أعمدة من الخرسانة . وكان هذا أغرب وأول تحول في علاقة الفلاح مع أرضه منذ بدأت فجر الحضارة علي ضفاف النيل.

وتلك الجريمة مازالت مستمرة تحت سمع وبصر المسئولين. كل يوم بلادنا تخسر من أرضها الكثير, ونخشي أن يأتي يوما نصحو فيه من غفلتنا فلا نجد أرضا نرتكن إليها في مواجهة الحياة, ونضطر إلي الاستيراد ثم الاستيراد حتى نموت , لكن ليس كموت محمد أبو سويلم.  

هناك تعليقان (2):

Al warak يقول...

تعليق رائع و ملخص جيد للقصة أنا لسه مخلص الفيلم و كنت بأدور علي بعض التعليقات عليه شكرا علي الملخص الرائع ده

عبده يقول...

اني ابحث عن تحليل لرواية الفلاح لعبد الرحمن الشرقاوي