الأحد، 27 أكتوبر 2013

رحلة الإذاعة المصرية.. من الهواة إلى رواد الزمن الجميل





البداية عام 1923 مع المحطات الأهلية التي استخدمت الأثير في تحديد موعد اللقاءات الغرامية!!
مطرب مغمور يهاجم عبد الوهاب عبر الإذاعة: اسمع يا سي عبد الوهاب وشوف العجب في اللحن والغناء!!
31 مايو 1934 بدأت الإذاعة الرسمية بصوت الشيخ محمد رفعت.. ليعلن بعدها أحمد سالم: هنا القاهرة
رغم التطورات التكنولوجية إلا أن الراديو ما زال باقيا .. وسيظل منافسا للتليفزيون والإنترنت



في عام 1920 ظهرت أول محطة إذاعة تجارية في العالم، فيما عرف المصريون الإذاعة عام 1923 على يد فريق من الهواة الأجانب, ومن وقتها وإلى يومنا استحوذ ذلك الجهاز على قلوب الملايين.

ومع سعي الطبقات الأرستقراطية لامتلاك أجهزة الراديو ظهرت محطات إرسال صغيرة مملوكة ‏لأفراد‏ ‏عرفت بالمحطات‏ ‏الأهلية، وحملت أسماء مميزة مثل "راديو فاروق", "راديو سابو", "راديو الأميرة فوزية", "راديو أمير الصعيد"، "راديو مصر الملكية".
ولخطورة الإذاعة صدر مرسوم ملكي في بداية مايو 1926 يحدد شروط استخراج تراخيص الأجهزة اللاسلكية طبقا للاتفاقيات الدولية، وتبث برامجها باللغات العربية، وللأجانب بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية.

الإذاعات الأهلية كان يقوم على تشغيلها هواة، فبعضهم استخدمها لبث رسائل الغرام وتحديد مواعيد وأماكن لقاءات العشاق. ولأنها تحتاج إلي مصدر للتمويل فقد وقعت إذاعات الهواة في قبضة التجار. وكانت إعلاناتهم في قمة الغرابة.

كان المستمعون يفزعون حينما يصيح المذيع: " ألو ألو.. اسمع يا أخينا أنت وهو .. حصلت حريقة كبيرة في شارع شبرا"، ثم يتوقف ليذيع أي فقرة إذاعية ويعود بعدما ترك الناس علي قلق مستأنفاً: لقد تبين أن الحريقة الكبيرة لم تكن سوي افتتاح خمارة الخواجة "بنايوتي" لبيع أصناف الخمور.
أو يصيح المذيع : ألو ألو الحق يا أخينا أنت وهو .. في قنبلة انفجرت في الموسكي" ثم يأتي مرة ثانية "القنبلة التي انفجرت الآن هي الأسعار المذهلة التي تبيع بها محال الضبع للعب الأطفال".

أما عن الأغاني التي تذيعها تلك المحطات فقد وصلت إلي حد الروح البلدي, فقد كان "محمد صبح" مطرب مغمور يغار من المطرب والموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كان يحظى آنذاك برعاية أمير الشعراء أحمد شوقي, ويصدح بأشعاره في قصور الأمراء والباشوات.. لهذا استخدم "صبح" الإذاعة للتنكيل بعبد الوهاب، وكل من تسول له نفسه التطول على الشيخ صبح على سن ورمح , فكان مثلاً قبل أن يستهل فقرته الغنائية، يبدأ بعبارات التحدي لعبد الوهاب ولكل الملحنين والمطربين كأن يقول مثلاً: "اسمع يا سي عبد الوهاب وشوف العجب في اللحن والغناء".. ثم يصدح صبح بأغنيته ليقطعها قائلا - وقد أخذته السلطنة بما يقول : سامع يا عبد الوهاب؟ فين أنت من الفن ده ؟.

ونتيجة لهذا الابتذال والهبوط بالذوق الغنائي شنت مجلة روزا اليوسف حملة ضارية على "صبح" .. فقرر الانتقام عبر الأثير, فكان يقطع وصلاته الغنائية موجها الحديث إلي السيدة فاطمة اليوسف مالكة المجلة : سامعة يا ست روزا .. ولا فيش كده أبداً . وبعد مقطع غنائي آخر يقول وقد استبد به الغيظ من أولئك الناس الذين لا يقدرون فنه: يا وليه افهمي بقي دانا الشيخ صبح!!

وراج سوق العوالم على موجات الإذاعة , ولم يكن من المستغرب أن يستمع الناس إلي أغاني تقول كلماتها "بيني وبينك كلام مين وَصَّله لأمك يا عبده ". أو أغنية: "أرخى الستارة اللي في ريحنا.. لحسن جيرانك تجرحنا".

ولأن دقائق البث كانت للبيع والشراء بشكل شخصي وفردي جداً فلقد استثمرت عصابات المخدرات هذه الميزة الإذاعية لإعلام الزبون بمكان وموعد التسليم، وإذا كان المناخ مواتياً أم لا، طبعا كل ذلك بشفرة غنائية يتفق عليها التاجر والزبون، فإذا ما بثت الإذاعة أغنية "الجو رايق"، فأن ذلك يعني أن الظروف مواتية لتسلم البضاعة، وإذا ما بثت أغنية "الجو غيم" لصالح عبد الحي يعني الظروف غير مناسبة.

وظل هذا المستوي في انحطاط حتى رأت الحكومة أن توقف تلك الحرب الإذاعية, وأصدرت قرارات بتنظيم تلك الإذاعات وإجبارها على عدم بث رسائل الغرام وهو ما كانت تلتزم به مؤقتا ثم تعاود سيرتها القديمة مرة أخرى, حتى جاء قرار بإغلاقها يوم 29 مايو 1934.

وبدأت الحكومة المصرية أولي خطواتها لتكوين أول إذاعة حكومية بالاتفاق مع شركة "ماركوني"، وجاء يوم 29 مايو ونفذت الإذاعات الأهلية القرار الصارم, واستمع المصريون لآخر مرة إلي صوت الإذاعات الأهلية. وظل المصريون بلا إذاعة طوال يوم 30 مايو, ويعد اليوم الوحيد الذي توقفت فيه الإذاعة المصرية, واستمر ذلك التوقف حتى الساعة السادسة من مساء 31 مايو حينما انطلق صوت أول بث للإذاعة الحكومية بتلاوة من الشيخ محمد رفعت الذي حصل على أجر 3 جنيهات.

وبعد تلاوة الشيخ الجميل انطلق صوت المذيع أحمد سالم قائلا: "هنا القاهرة، سيداتي وسادتي: أولى سهرات الإذاعة المصرية في أول يوم من عمرها تحييها الآنسة أم كلثوم".

وكان أجر أم كلثوم وقتها 25 جنيها, وقد طلبت "كوكب الشرق" نظير إحيائها للافتتاح مبلغ 30 جنيها، وهو رقم كبير إذا ما قيس بالأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في 1930 فيما عرف بالكساد الكبير.. ووافقت الإذاعة على طلب كوكب الشرق. ومن يومها بدأت حفلات أم كلثوم الشهرية مع الإذاعة، وفي أول خميس من كل شهر يتجمع المواطنون من الخليج إلي المحيط يستمعون إلي صوتها الساحر، حتى قالت صحيفة أمريكية أن أم كلثوم نجحت فيما فشل فيه الساسة، واستطاعت أن توحد الشعوب العربية.

وكان من نجوم ذلك الزمن الجميل المطرب الكبير صالح عبد الحي , ولضمان أكبر نجاح للافتتاح تعاقدت معه الإذاعة لإحياء تلك الليلة مقابل ١٢ جنيهاً . ومن غرائب المقادير أنه بعد ٢٦ عاماً كان صالح عبد الحي وحده نجم افتتاح التليفزيون في ٢١ يوليو ١٩٦٠، حيث أذيع له علي الهواء من أستوديو رقم ١ رائعة بيرم التونسي والسنباطي "ليه يا بنفسج".

وفي صباح 23 يوليو 1953 أذاع أنور السادات بيان حركة الجيش المباركة، وبدأ الضباط الأحرار يجدون طريقهم نحو مبنى الإذاعة في شارع الشريفين في قلب القاهرة.

ومنذ اليوم الأول حرصت الإذاعة علي استقطاب نجوم المجتمع, لتقدم وجبة ثقافية وفنية أصيلة تنال ثقة واحترام المستمعين.. كما قدمت عشرات المسلسلات الإذاعية لكبار الكتاب من قامة طه حسين, والعقاد, وهيكل.

وبالرغم من ظهور التليفزيون في يوليو ١٩٦٠ إلا أن مكانة الإذاعة لم تتراجع وجذبت إليها الجمهور ببرامج وفقرات مازالت تمثل بصمة في تاريخ الإذاعة المصرية..ومن ينسي حفلات أعياد الربيع وصوت آمال فهمي وبابا شارو وآبلة فضيلة وصفية المهندس وجلال معوض وغيرهم من المبدعين.
واستمر الراديو في عصر الأقمار الصناعية والفضائيات والإنترنت، يهون علينا المسافات داخل السيارات، ويؤنسنا في الحل والترحال، مجددا نفسه باستمرار، مؤكدا بأنه خُلق ليبقي.
وسلام الله عليك أيها الساحر العظيم.













ليست هناك تعليقات: