الاثنين، 28 أكتوبر 2013

قبل فوات الأوان..!ّ





في ذلك الصباح من الشتاء.. غابت الشمس بدفئها عن المدينة.. وتجمعت السحب في السماء تنذر الجميع بعاصفة ممطرة..
لكن الزوج قرر أن يستقل سيارته ويذهب إلى مكتبه قبل هبوب العاصفة.. وما أن خرج إلا وثارت الرياح وأرعدت السماء وقذفت السحب ما في جوفها من ماء..حتى غرقت الطرق. أوقف الزوج محرك سيارته , مفكرا.. هل يغامر ويستمر في طريقه إلى عمله الذي يعشقه.. أم يعود إلى بيته ويستمتع بالدفء الأسري الذي حرم منه نفسه لسنوات؟ّ!

القي نظره إلى السيارات من حوله.. فوجد الجميع يعاودون أدراجهم..فقرر أن يعود.
وعاد.. عاد إلى بيته..وطرق الباب.. ففتحت له زوجته ؛ باديا على وجهها السعادة.. وتجمع حوله أبناؤه , تتراقص الفرحة في أعينهم.. فقد كانوا قلقين منذ خرج الأب من البيت وسط الأمطار والعواصف.. وكانت عودته فرصة ليستدفئوا بالجو الأسري.

على مقعد بالقرب من المدفئة جلس الزوج.. جاءته الزوجة بالقهوة الساخنة.. وجلس الاثنان يتحدثان.. وقد تعلقت عين الزوج على وجه زوجته.. وفجأة تسللت يده ؛ وتلمس أنامل رفيقة عمره وقال لها وقد ضغط على يديها: 
"لا أدري ماذا حل بي اليوم , ولكنني أشعر أنني أريد أن أقول لك أنني سعيد بك.. سعيد ببيتي وسعيد بأطفالنا.. أنني أحبك يا عزيزتي .. ولو عادت عقارب الزمن إلى الوراء .. إلى اليوم الذي قابلتك فيه أول مرة واخترتك زوجة لي .. لما فعلت غير ما فعلت.. أنني لا أستطيع أن أتصور رجلا أسعد حالا مني في هذا العالم الواسع".

نظرت الزوجة إلى عينيه.. فوجدتهما يلمعان ببريق صادق غريب لم تره من قبل.. تري ما الذي حل به اليوم ليقول تلك الكلمات ؟! منذ زواجنا منذ خمسة عشرة عاما وقد أخذه العمل من بيته .. لا يعود إليه إلا مرهقا مكدودا .. يطلب الراحة لجسمه .. لا يجلس مع أطفاله إلا لماما.. تري ماذا دهاه؟!

وهدأت العاصفة.. وتوقف المطر.. فاقترب الزوج من زوجته وطبع على جبينها قبلة تحمل كل معاني الحب والحنان.. ثم ودعها عازما على العودة للعمل.. من شرفة البيت وقفت تودعه..طالبة منه الاحتراس من أخطار الطريق..
ولم يعد الزوج مساء ذلك اليوم ..
وبعد أسبوع من البحث المضني وجدوا سيارته وقد جرفتها السيول إلى بطن الجبل.

ماذا تعني تلك القصة المؤلمة التي رواها لنا الفيلسوف الأمريكي ايمرسون؟
هل الحياة التي عاشها الزوج المسكين هي التي نسعى إليها؟!.. نهرول صباح مساء وراء المال والعمل من أجل الغني والثراء.. نقنع أنفسنا واهمين أن في المال تأمين لحياة الأسرة مستقبل الأطفال.. ونغفل عن الاستمتاع ببيتنا..بالزوجة الجميلة التي تعيش معنا..بالأطفال وابتساماتهم وشقاوتهم. كل ذلك نؤجله يوما بعد يوم بدعوي أن ما نجمعه اليوم سيكون ذخرا للمستقبل!!
لكن الحياة ليست ذلك..

يقول ايمرسون: "كثيرون منا يمضون في طريق الحياة دون أن يدركوا المعني الحقيقي للحياة.. المعني الذي غاب عن أذهان العديد من البشر.. أنه عمرنا على هذه الأرض.. أنه الدقائق والساعات والأيام والسنين التي نقضيها قبل أن نرحل عن هذه الدنيا .. ومن أجل هذا فلابد لنا أن نفيد ونستفيد من كل لحظة من لحظات حياتنا ! لابد لنا أن نشعر أننا أحياء , وأن نُشعر من حولنا بقيمة الحياة وثمنها .. ولكن قليلون هم الذين يفعلون ذلك .. وأقل منهم من يدرك المعني الحقيقي للحياة".

الزوج المسكين كان من الأكثرية.. فلم يكتشف معني الحياة إلا عندما أحس بدنو أجله .. كان يمكنه أن يجلس في صفاء مع زوجته ويتبادلا ذلك الحديث الدافئ طوال خمسة عشر عاما .. كان يستطيع أن يستمتع بالنعمة التي حباه الله بها بأنه جعله أب لأطفال صغار.. كان يستطيع أن يردد على مسامع زوجته تلك الكلمات الحلوة كلما كانت هناك مناسبة لأن يقولها.
ولكنه شاء أن يؤجل ذلك.. حتى لم يعد في العمر بقية.

أطفالنا لا يحتاجون إلى المال وحده.. فكما ينمو الجسم بالطعام.. تنمو العواطف بالحب والتقبيل والاحتضان والابتسام وعلامات الرضا.. أطفالنا هدايا من السماء فلا نبخل عليهم بإظهار حبنا لهم.
عبد الكريم بكار يخبرنا بأن "أسوأ ما يمكن أن نقع فيه معشر الآباء هو إضاعة أعمارنا وبذل جهودنا في غير المجال الذي ينبغي أن نكون فيه , فنكون بذلك كالطائر الذي يبيض في غير عشه"..

الكاتب "فنسنت بيل" في كتابه "استمتع بحياتك طول العمر" يكشف لنا الغطاء عن الحياة الحقيقية بقوله " أنها المشاعر التي يحس بها الإنسان نحو أسرته وأصدقائه وكل الذين عرفوه.. ثم ترجمة لهذه المشاعر في الوقت المناسب , وقبل فوات الأوان"
قبل فوات الأوان قل لمن تحب .. أحبك..
أنقذ مشاعرك من ذلك الجب العميق الذي تخبئها فيه.

فالمشاعر خلقت لتنطق لا لتكبت..
جاء في السيرة النبوية أن رجلا كان يجلس مع رسول الله , فمرا عليهما رجل آخر, فقال الجالس مع رسول الله: أني أحب فلانا في الله. قال له صلي الله عليه وسلم: هل أخبرته أنك تحبه؟!.

تقول بان دنياك كلها مشاغل وعمل وكد وكفاح!!
لكن عزيزي الأب.. توقف هنيهة قبل أن تنطق بذلك.. فالعمل والكفاح لا يمنعك من الاهتمام بأطفالك والتمتع بصحبتهم..
فقد كان صلي الله عليه وسلم؛ وهو من هو في انشغاله بأمور المسلمين وبناء الدولة والجهاد, يمرح ويلعب مع الحسن والحسين, فكان يمشي على يديه وركبتيه, فيتعلقان به من الجانبين, فيمشي بهما وهو يقول: "نعم الجمل جملكما, ونعم العدلان أنتما".

إشراقه:
إننا نتعلم بعد فوات الأوان أن قيمة الحياة في أن نحياها.. نحيا كل يوم منها وكل ساعة..
كريم الشاذلي

من كتابي ///
   الحياة رحلة 




ليست هناك تعليقات: