الجمعة، 27 ديسمبر 2013

هل تعثرت؟ حاول وابدأ من جديد -- من كتابي : الحياة رحلة

 

استقلّ أحد الحكماء سفينة، الموج الوديع لم يكن ينبئ بما يختفي وراءه من أخطار؛ فما لبثت الشمس أن اختفت خلف السحب الداكنة، وتلبدت الغيوم، وثارت الأمواج ترتفع كالجبال وتهبط كالوديان، تضرب بعنف جوانب السفينة، التي لم تستطع المقاومة طويلاً، فخارت قواها، واستسلمت لمصيرها المحتوم لتستقر في قاع البحر.

قفز الرجل إلى البحر الثائر, مقاوماً للموج والتعب الذي يشده إلى الموت ؛ حتى وصل أخيراً إلى الشاطئ ، عارياً من كل شيء؛ من ثروته التي اختارت أن تغوص مع حطام السفينة, ومن ملابسه.. لكنه وقف سعيداً مبتهجاً ولسانه يلهج بالشكر "الحمد لله.. لقد نجوت بكل ثروتي"! 

كان الحكيم صادقاً في مقولته , صحيح أنه فقَد أمواله؛ لكنه يعرف أنه لم يفقد العقل الذي يفكر, واليد التي تستطيع أن تضرب بالفأس في أرض العمل لتنبت شجرة, ثمارها النجاح, ومذاقها السعادة.

وحياتنا كرحلة الرجل الحكيم , قد تقابلها عقبات وأزمات تزلزل كياننا , وتهدم الصروح التي شقينا العمر في تشيدها.. لنجد أنفسنا في مفترق طرق , إما أن نستسلم لقدَرنا, ونندب حظنا العاثر, ونذرف الدموع, ونصب اللعنات على الظروف.. أو نشحذ همتنا, ونستنهض قوانا الداخلية لنبدأ من جديد. 
 
 
والأمر ليس بالهيّن, ولا يستطيعه إلا كل ذي همة عالية وإيمان حق, ذاك الذي  يرى النور من وراء الغيوم, ويوقن أن الشمس ستشرق من جديد, وأنه ما دام للكون رب يرعى شئون عباده, وبين الأضلع قلب ينبض, وفوق الكتف عقل يفكر, فإن المرء يستطيع أن يبدأ من جديد, ويبني بناء أشد وأمتن مما تهدم وتبعثر.

فها هو الأمير عبد الرحمن بن معاوية يرى مُلك آبائه وأجداده وقد تداعى أمام ضربات العباسيين الذين حرصوا على قتل كل أمراء وأبناء أمراء بني أمية؛ خشية أن ينتفض أحدهم ويحاول أن يستردّ العرش.

لم يستسلم الأمير الأموي وهو ابن التاسعة عشر, واتجه ببصره إلى أقصى ركن في دولته المتداعية, وعبر آلاف الأميال في مغامرة تاريخية مدهشة, نجا خلالها من عيون الجواسيس, وأخطار محدقة, وأعداء يطلبون موته كما يطلبون الحياة لأنفسهم.

وبدهائه وعبقريته نجح في تشيد دولة قوية في الأندلس, وصف الكاتب الأمريكي ويل ديورانت حضاراتها بأنها فخر لبني الإنسان.. ونافست الخلافة العباسية في القوة والثراء والتحضر؛ حتى إن أشد منافسيه أبو جعفر المنصور، يقول يوماً لأصحابه: "أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا: هو أنت. فقال: لا.. بل هو عبد الرحمن بن معاوية، دخل الأندلس منفرداً بنفسه، مستصحباً لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر، وأقام ملكاً بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه". 

فالدنيا -يا صاحبي- تحتاج إلى من يشاكسها ويعاندها؛ فهي لم تعطِنا عهداً لكي تكون عندما نريد كما يقول الدكتور طه حسين, وبكدّنا واجتهادنا نستطيع أن نتخطي صعابها, ونبدأ من جديد.

وهذا إدوارد شيلدون Edward Sheldon الكاتب المسرحي الذي لمع اسمه في أوائل القرن العشرين, بعد أن صفّق له الملايين يصاب بالشلل, ليجلس على كرسي متحرك. 

ويشفق عليه أصدقاؤه؛ لكنهم يعجبون حينما يرونه يمضي ويكتب دون أن تفارق الابتسامة وجهه النحيل.

لكن القدر كان يخبئ له ما هو أشد؛ فقد بدأ يفقد نور عينيه ببطء، إلى أن جاء اليوم الذي فقَد فيه بصره  تماماً, وأصبح حطاماً لرجل لا يتحرك ولا يرى.

وينزوي عنه أصدقاؤه.. وبعد عام فوجئوا بمسرحية تُعرض على مسارح نيويورك تحمل اسمه.. ويسرعون إلى بيته.. ليجدوا صديقهم الكسيح الضرير لم يفقد الأمل في الحياة.
 
 
رأوه متدثّراً بغطاء ثقيل, وقد أخذ يملي على صديق -رفَض أن يتركه في محنته- مسرحية جديدة كان يسجّل فيها آخر مشهد من مشاهدها..

قال شيلدون لأصدقائه: "كنت أتوقع مجيئكم قبل ذلك بكثير.. ما الذي منعكم من زيارتي!"؛ قالها وقد ارتسمت على شفتيه شبح ابتسامة دقيقة تنمّ عما كان يعتمل في صدره من فرحة بلقاء هؤلاء الأصدقاء.

وسكتوا.. فقد كانوا يتوقعون أن يروا أي شيء إلا هذا الذي رأوه.. هل يمكن أن يعيش إنسان بهذه الروح العالية بعد أن أصيب بالعمى وفقَد القدرة على الحركة؟! 

كتبت الكاتبة المسرحية "آن مورو لندنبرج" تصف أحاسيسها عقب كل زيارة كانت تقوم بها للصديق الأعمى الكسيح: "كنا نترك غرفته أكثر انتعاشاً, وأكثر أملاً بالحياة, كنا نشعر بأن هناك ألف طريق وطريق يمكن أن نسلكها لكي نصل إلى ما نصبو ونبتغي, وأن العمر سوف يمتد بنا طويلاً لكي نحقق آمالنا". 

فكن كالنهر, تعترض طريقه الجنادل والصخور, فيروغ ويدور حتى يفلت من خناقها, ثم يمضي في طريقه مسرعاً, وقد ارتسمت على صفحته ابتسامة الانتصار.. ويا له من انتصار. 

إضاءة جانبية: 

هل حاولت؟ هل فشلت؟ لا يهم..  حاول مجدداً، وافشل مجدداً؛ ولكن افشل بصورة أفضل..


صمويل بيكيت

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

الشامبو.. ابتكار إسلامي يغزو لندن





عرفت أوروبا الشامبو على يد شاب مسلم اسمه شيخ الدين محمد حينما قام بافتتاح محل للعناية بالشعر في العاصمة البريطانية لندن عام 1800 .
وكلمة شامبو تعود جذورها إلي كلمة chāmpo الهندية, وهي تشير إلي عملية تدليك الرأس.

وتتمثل وظيفة الشامبو الأساسية في تنظيف فروة الرأس التي لا يستطيع الصابون العادي القيام بتلك المهمة. 
وشيخ الدين من مواليد الهند عام 1759, ويتحدر من أصول إسلامية , وكان أجداده يقومون بخدمة سلاطين المغول في الهند , ولذلك نشأ محبا ودارسا للحضارة المغولية , وهو أمر ساعده كثيرا على التطوير في مجال صناعة الصابون والشامبو.

وهاجر شيخ الدين إلي ايرلندا عام 1784 , وهناك درس اللغة الانجليزية حتى أتقنها , وتزوج من فتاة ايرلندية جميلة , وقد عارضت أسرته أمر هذا الزواج , ولكن شيخ الدين صمم عليه.

وبمساعدة زوجته قام شيخ الدين بافتتاح شركة أطلق عليها : "Mahomed's Steam and Vapour Sea Water Medicated Baths .
وكان حمامه شبيها بالحمامات التركية التي يتلقي فيها العملاء معالجة بالشامبو والذي كان يستخدم كوصفة علاجية . وقد أجري معالجات لبعض ملوك بريطانيا مثل الملك جورج الرابع و ويليام الرابع.
وتحول شيخ الدين محمد من الإسلام واعتنق الانجلينية , وكان أحد أحفاده راعي في كنيسة.

من كتابي : 

ومضات إبداعية 

قصة اختراع شوكة الطعام .. ومحاربة الكنيسة لها !!



الشوكة ليست اختراع حديث , فقد عرفتها الحضارات القديمة , وأثبتت الحفريات أن البابلبين عرفوا الشوكة , كما عرفها الأغريق والرومان , كما ذُكرت في التوراة , لكنها لم تكن بنفس الشكل الذي نعرفه حاليا , إذ كانت في بدايتها تتكون من سن مدبب يُستخدم في التقاط اللحم المشوي من النار , ثم تطورت إلي سنين مدببين.

ولم تعرف أوروبا الشوكة حتى القرن العاشر الميلادي , وكان الأوروبيون يتناولون الطعام باستخدام أيديهم إلي جوار المعالق لتناول الشربة , وكانت الأسر الاستقراطية تحاول أن تبدو أكثر تقدما وتستخدم أدوات إضافية , مثل السكاكين لتقطيع اللحم ثم تناوله بأيديهم , أما الملعقة فاقتصر دورها على المشروبات الساخنة .

ويقال أن أميرة بيزنطية حاولت استخدام الشوكة ضمن ادوات الطعام , ولكنها فشلت في محاولاتها بعد أن أعترضت الكنيسة التي منعت استخدام الشوكة باعتبارها بديلا لصنع الله وهو اليد , ووصفت من يستخدمها بالهرطقة والكفر. وقال بعض أتباع الكنيسة : إن الرب بحكمته قد زود الانسان بشوك طبيعية وهي أصابعه , ولهذا فأننا نهينه عندما نستبدل تلك الشوك الطبيعية بتلك الشوك الصناعية عندما نتناول الطعام بها".

ولم يقف ذلك التحذير أمام انتشار الشوكة التي أصبحت ضيفا على موائد الأثرياء..
وكانت البداية في إيطاليا على موائد التجار والطبقات الراقية.  وذُكرت الشوكة لأول مرة في تاريخ إيطاليا عام 1032 م , ثم انتقل استخدامها إلي فرنسا تدريجيا , ومنها انتقلت إلي باقي الدول الأوروبية.

وفي القرن السابع عشر الميلادي تغير شكل الشوكة وأصبح لها ثلاثة أو أربعة أسنان.

الدكتور الجوادي يحلل شخصية الشيخ الطيب ويصفه بأنه "مدجن"


الدكتور محمد الجوادي ... في هذا الفيديو يقدم تحليل رائع للشيخ الطيب ويصفه بأنه من الطيور الداجنة ، التي خلدت إلى الراحة والسكينة ... فيما طلاب الأزهر من الطيور التى ترفض "التدجن"...
كما يتطرق الجوادي إلى شخصية جون كيري وزير خارجية أمريكا بعدما قال إن السيسي أنقذ الديقراطية في مصر ، وإن الإخوان سرقوا ثورة 25 يناير ! 

فيديو رائع .. لا يفوتكم مع المبدع الدكتور الجوادي

https://www.youtube.com/watch?v=Nibajn-0A9Y&feature=youtube_gdata_player

الخميس، 21 نوفمبر 2013

اعرف نفسك أيها الإنسان




ثمة مشكلة يعاني منها أغلب البشر..
لا يعرفون من هم؟ وما هي الرسالة التي يحملونها؟

بيننا وبين الله صلة قل من يدركها..ففي أجسادنا نحمل جزء منه.. أرواحنا من روحه..
وما أعظمها من صلة!

لكن الجسد الإنساني ليس نقيا من الشوائب كالذهب.. صافيا كماء المطر..

فالإنسان مركب من طينة غليظة سواها الله في أبدع صورة.. ثم نفخ فيها من روحه فإذا هي تدب على الأرض وتتكلم وتعقل وتفكر وتبدع..
والطين يشد الإنسان إلى أسفل.. بشهوات الطعام والجنس وحب المال والبنين وقناطير الذهب.. والروح تجذب الإنسان إلى أعلى..حيث مصدره الأعلى.
 ومنذ بدأت البشرية تسطر أول سطورها في كتاب الحياة والصراع لم ينتهي بين الطين والروح..ما بين الشهوة والسمو.. الشر والخير..

فإذا ما خلا الطين من إشراق هذه النفخة الربانية استحال طينة معتمة..طينة من لحم ودم..لكنها لا تمت للإنسانية.
يقول المبدع سيد قطب في كتابه "ظلال القرآن" اللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها لولا تلك الإشراقة التي تنتفض فيه من روح اللّه ، يرقرقها الإيمان ويجلوها ، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم ، ويشف بها هذا الكيان المعتم".

وكل إنسان عليه الاختيار بملء إراداته..
ما بين الأرض والسماء..
فإذا اختار طريق الانحراف والحياة اللذيذة التي لا تؤرقها مسائل الحلال والحرام .. فليهنأ بما اختار.. وليدفع فاتورة اختياره غير شاكا في الدنيا من تنكر السماء له.. وفي الآخرة من عذاب الجحيم.

أما من اختار السماء..فليدفع ثمن فاتورته من الاختبارات التي سيتعرض لها, وليتحمل راضيا تبعات الرسالة التي يحملها فوق ظهره..فالجنة لا تفتح أبوابها إلا للمجتهدين , المجاهدين للظلمات وشهوات النفس.

وثمة مفارقة كبيرة أيضا بين حياة الاثنين..
فالذي يلهث وراء الدنيا ليستحوذ على أحسن طيباتها ويشبع جسده النهم يصاب بضيق الرؤية..فلا يبصر من الحياة إلا الطرق التي تؤدي إلى مزيد من المال والثروة..
يعيش كالأنعام..يأكل ويشرب وينام..
وعفوا أيها القارئ العزيز على استخدام هذا اللفظ..
وعذري في إيراده أن القرآن استخدمه من قبل..ومنه استعارته.. فقد وبخ ربي – جل شأنه – صنف من البشر وصفهم بأنهم " لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ ".

وماذا تنتظر من أناس تعطلت فيهم حواس التفقه في أمور الدنيا والتبصر في شئونها والاستماع إلى موعظتها.
أن الأنعام أفضل منهم..ألا يكفيهم أنها غير مكلفة بحمل الرسالة..رسالة الله لتعمير أرضه..
وفوق ذلك..هي تسبح بحمده..وتعترف به خالقا.
أما من هبط بنفسه إلى الطين , فلا يتطلع إلى أعلي من الأرض التي يعيش فيها.. وهذا الهابط لا تنتظر منه شيئا في حمل تكاليف رسالة الإنسان المؤمن.

ألا ما أسوأها من عيشة.. ومرتبة يرتضيها البعض لأنفسهم!

أما المؤمن..
من يسمو إلى السماء..يمد إليها روحه لتتصل بالنبع الأول..فأنه يتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس.

قلبه بالعرش دوما موصول, روحه في الكون تسبح..يشعر بأنه جزء من منظومة عظيمة أبدعها ربه..فهو يمت بصلة للنجوم والشموس, يتأمل القمر في وداعته, والنجوم في تألقها, ودروب الكون التي لا يحدها عقل..فلا يملك لسانه أن يلهج بالتسبيح لربه " رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ "..

يـتأمل طويلا كونه إنسان يعيش على الأرض مع إخوان له يبلغون 6 مليارات من البشر..كل منهم له عينان وآذنان..ومع الضجيج الذي يلف الأرض يسمع ربه همسه ونجواه..
والجميع يتشارك كوكب صغير ضمن مجموعة من الكواكب السيارة التي تدور وتسبح في الفضاء حول نجم متوسط الحجم هو الشمس تبعده مسافة 150 مليون كيلو متر عن الأرض..
ولكن كيف تسبح النجوم الكواكب؟ وهل في الفضاء فراغ؟ وهل يمكن أن تسقط الكواكب؟ وأين تسقط؟ فهل هناك قاع؟
أسئلة تستثير كل ذو لب..

أما الشمس فهي مفاعل نووي ضخم يحترق من أجل إنارة كوكبنا الأزرق , وهي مجرد نجم من عائلة كبيرة لا تحصي في مجرة اسمها درب اللبانة , وهي أيضا واحدة من آلاف أو ملايين المجرات.. أما عن الكون..فهو يتسع إلى الخارج ويتمدد..لكن إلى أين..العلماء لا يعرفون..فالكلمات والعقول تقف حائرة أمام معجزة الكون.

ولا يمكن لأرض محدودة أن تضيق على مؤمن..ولا لفقر أن ينال من نفسه..فهو يملك الأرض وغاباتها وأنهارها وبحورها..
وكيف تضيق أرضا بقلب موصول بالسماء؟!

وهو في حياته..يسعي جاهدا ليسير على خطى ربه..يستمد من روحه الربانية فيتعلم الجود والكرم والعطاء.. يكدح في الأرض ليعمرها لتكون أجمل..ينافح الظلم لينشر عدل السماء.. يدافع عن الفقراء والمستضعفين في الأرض ليجبر كسرهم.

فأعلم من أنت أيها الإنسان..
وارتق بنفسك , فأنت نهر متفرع من نهر كبير , فصارع أمواج الحياة وفتنتها لكي تصل بسفينة سالمة إلى مرفأ الآخرة.. وساعتها يحق لك أن تنال قسطا من الراحة الأبدية والنعيم المقيم.

الخميس، 14 نوفمبر 2013

إذا أصابتك مصيبة.. تفاءل وابتسم!!





أقبل الليل على السفينة وهي في عرض المحيط؛ فثارت الأمواج تأخذ بها إلى قمتها، ثم تقذفها دفعة واحدة إلى أسفل؛ حتى انهارت مقاومتها ، لتهوي إلى الأعماق ، ونجا من ركابها رجل، قذفه الموج إلى شاطئ جزيرة مجهولة!.

أخذ الرجل يفكّر فيما مرّ به من أحداث ، في الأقدار التي أخذته من أسرته وشركاته وأمواله ، وألقته على ظهر تلك الجزيرة الموحشة.. وتساءل في حسرة.. ماذا قدّمت في حياتي حتى أنال هذا العقاب الأليم؟ ولماذا أنا دون البشر أواجه هذا المصير المؤلم وأعيش وحيدًا على جزيرة نائية لم تطأها قدم إنسان من قبل؟ ولماذا لم أعانق الموت وسط الأمواج فأستريح من ذلك العذاب الذي يعتصرني كمدًا؟

ومرت شهور، والرجل يلتقط طعامه من غابة الجزيرة، ويشرب من جدول صغير، ويبيت ليلته في كوخ صغير بناه بالقرب من الشاطئ، يحتمي به من برد الليل وحر النهار.

وذات يوم، ضربت صاعقة كوخه البسيط؛ فالتهمته النار على الفور؛ فأخذ الرجل يصرخ: لماذا يا رب؟ لماذا تعاقبني دائمًا بقسوة؟ لماذا تنهال عليّ المصائب متتابعة؟.
وبات الرجل حزينًا، وقد ألقى الحزن أستاره السوداء على قلبه، وفي الصباح كانت بانتظاره مفاجأة؛ إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة؛ فسألهم الرجل في دهشة: "كيف عرفتم مكاني وتلك الجزيرة جدباء لا تُغري السفن بالاقتراب منها"؛ فأجابوا: لقد رأينا نيرانًا ودخانًا عاليًا؛ فعلمنا أن شخصًا يطلب المساعدة".

إننا معشر البشر نرى الأمور بأعيننا، ونثق في أحكامنا ومشاعرنا، ونظنها عين اليقين، وقد تكون عند البحث عين الخطأ. فحينما تتعثر أقدامنا، ويضيع ما كنا نتمناه، نندب حظنا، والقدر الذي يعاندنا، ونلوم السماء التي تريد أن تحرمنا السعادة.. نفعل ذلك وقد لا ندري أن يكون في ما يصيبنا الخير كل الخير

كاتبنا المبدع عبد الوهاب مطاوع كان في البداية يتمني أن يكون مؤلّفًا مسرحيًّا عظيمًا ينافس توفيق الحكيم، يكتب مسرحيات قادرة على انتزاع صيحات الإعجاب وآهات الجماهير.. وصوّرت له أحلامه أن يخوض أول تجربة مسرحية؛ فكتب مسرحية ليقدّمها فريق التمثيل بمدرسته الثانوية.. وأثناء البروفات مرض مرضًا شديدًا ألزمه الفراش لمدة شهر كامل، وأضاع عليه فرصة مشاهدة مسرحيته الأولى.

ولاحظ أن أصدقاءه يتجنبون الحديث عن المسرحية؛ بينما هو في شوق للاستماع إلى آهات الإعجاب، وعبارات الاستحسان عن عبقريته المسرحية.. إلى أن أخبره صديق أن البطل الذي اختاره ليمثّل دور البطولة انتهز فرصة مرضه؛ فقدم المسرحية باسمه كمؤلف لها وليس فقط كبطل لأحداثها

وتألّم لهذه "الخيانة الثقافية"، وسرقة عمله المسرحي الأول، "والآن وبعد هذا السنوات الطويلة؛ فإنني أُدرك حكمة هذا الخير الذي خفي عني وقتها وتألمت في حينه؛ إذ ربما لو كنتُ جرّبت نشوة الإعجاب وتصفيق الجمهور بما كتبتُ وقتها لصدّقت بالفعل أنني مؤلف مسرحي، ولأهدرت طاقتي وعمري في طريق لم تهيّئني له العناية الإلهية، ولعانيت مرارة الفشل والإحباط حين أطرق بابًا لا يستجيب لطرقاتي". 

والمؤمن الحق هو من يصبر على قدَر الله، ما دام ليس له فيه بدّ، ويعلم أن الخير قد يأتيه من حيث يراه الناس الشر، مثلما تختفي قطرات المطر خلف الغيوم والسحب الداكنة

وأعظم دروس الاستسلام لحكمة الله نقرؤها في قصة نبي الله موسى مع العبد الصالح؛ تلك القصة التي ألقى القرآن عليها أستارًا من الغموض؛ فلا ندري زمانها ولا مكان أحداثها، ولا نعرف شخصية العبد الصالح

ربما كان هذا الغموض مردّه إلى ما تحويه من أمور يقصر دونها علمنا البشري.

فنحن هنا مع موسى كليم الله، وأحد أولي العزم من الرسل، أنزل الله عليه التوراة دون واسطة، وكلّمه الله تكليمًا.. هذا النبي العظيم يتحول إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم منه.

ويخبره العبد الصالح أنه لن يصبر؛ فهناك تصرفات سيأتي بها تثير دهشته، وترتفع في نظره إلى مرتبة الجرائم؛ فظاهر الأمور مصائب وكوارث؛ لكنها تُخفي في باطنها رحمة من الله

ها هما الاثنان يسيران على ساحل البحر؛ فيستقلان سفينة، وحين ترسو يخرقها العبد فيأخذ منها لوحًا ويلقيه في المياه، فيختفي بين الأمواج، ويتعجب موسى: أناس يفعلون معنا الخير؛ فنقابله بالإساءة؟

وماذا كان موقف أصحاب السفينة المساكين؟ ربما لاموا حظهم السيئ، وعاتبوا الأقدار التي ابتلتهم بذلك الخرق الذي سيعطلهم عن مواصلة اصطياد رزقهم من البحر..

ويُكمل موسى والعبد سيرهما، ويمران على حديقة يمرح بها أطفال؛ حتى إذا تعبوا من اللعب وانتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنوم، فوجئ موسى بالعبد يقتل غلامًا، ويثور موسى؛ تلك جريمة قتل؟ ولمن؟ لغلام بريء لم يرتكب أي جرم؟ 

تُري ماذا كان موقف والديْ الغلام؟ هل ندبا حظهما لأن الموت اختطف ابنهما صغيرًا؟ هل تساءلا لماذا يُقتل وهو بعد طفل بريء؟! يتركنا القرآن هنا أيضا نضرب في أودية الأفكار !  

ويقترب العبد وموسى - عليه السلام - من قرية أهلها بخلاء، فيرفضون استضافتهما، ويجد العبد جدارًا أوشك على التهدم؛ فيقيمه، ويتعجب موسى !

وهنا يكشف العبد عن حكمة الله؛ فالسفينة أنقذها الله بالخرق من ملك يستولي على السفن ليستخدمها في حربه، ولو وجدها سليمة لضمّها إلى أسطوله، وضاعت على أصحابها المساكين

والغلام كان سيصير في شبابه عاتيًا في الكفر، وربما جرَف والديه معه إلى الجحيم؛ فأراد الله أن يُبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا.

والجدار كان لغلامين يتيمين، ويخفي داخله كنزًا لأحد أجدادهم، ولو ترك العبد الجدار لسقط واستولى عليه أهل القرية البخلاء؛ فأراد ببنائه حرمانهم من الكنز، وادخاره للغلامين حتى يكبرا.

تلك هي حكمة الله التي توارت عن عيون البشر؛ حتى عن نبي يتلقى الوحي، وكان الدرس الإلهي بأن الكوارث تُخفي في باطنها أحيانًا الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب، وأن ما نراه شرًّا وانتقاصًا من سعادتنا ربما كان يكمن فيه الخير، كل الخير

فهل من متدبر؟

إضاءة جانبية: 
عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير.. ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن.. إن أصابته سراء شكَر فكان خيرًا له.. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له..

رسول الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام


من كتابي / الحياة رحلة