الأربعاء، 20 مايو 2020




 ابو بكر اللمتوني ... تنازل عن عرش الحكم مختارًا ونشر الإسلام في 15 بلد إفريقية 

 

كان سببا في دخول الإسلام إلى خمسة عشرة دولة أفريقية، كرس حياته كلها للجهاد، واعتبره ملاذه وراحته، ترك الخضرة والهدوء، وزوجته الحسناء، وحمل نور الإسلام ينثره بين القبائل الوثنية، وحينما نازعه في المُلك ابن عمه، وأوشكت نذر حرب أهلية أن تتجمع في الأفق، تنازل عن حكم أعظم دولة في غرب وشمال أفريقيا، وقال: إني لا ابتغ من الحياة إلا الجهاد والشهادة. وعاد ينشر الإسلام بين القبائل الوثنية الأفريقية حتى أكرمه الله بالشهادة.

 

ألا تعلمون من هو؟

أنه الأمير الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني.

 

ينتمي إلى دولة المرابطين التي شملت في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري سائر أنحاء المغرب، وموريتانيا والسنغال. وقد قامت تلك الدولة الكبرى على أكتاف قبيلة "لمتونة"، وهي بطن من بطون قبيلة "صنهاجة"، أعظم القبائل البربرية، والتي منها جاء لفظ دولة السنغال حاليا، فقد نطقها البرتغاليون سنهاجال Senhagal ثم سنجال Senegal.  

 

كل تلك القبائل تتخذ من الصحراء مسكنًا وملاذًا، تعيش على لحوم الأبل ولبنها، وكان شعارهم "اللثام"، ومن ثم فقد عُرفوا بـ"الملثمين"، ربما لأن رجالهم يغطون وجهوهم بقطعة من القماش فلا يبدو إلا العينان.

 

وليس صحيح أن "المرابطين" هم الذين أدخلوا الإسلام إلى غرب أفريقيا في القرن الحادي عشر الميلادي، كما تحاول أن تشيع ذلك المصادر الأوروبية، فقد وصل نور الإسلام إلى تلك البقاع مبكرا على يد القائد عقبة بن نافع الذي أسلم على يديه من البربر خلق كثير.

 

كانت بداية ظهور الملثمين كقوة على مسرح التاريخ الإسلامي مع الأمير يحيي بن إبراهيم الجدالي، زعيم قبيلة جدالة أو كدالة، وهي شقيقة قبيلة لمتونة يجمعها أب واحد.

 

وكان لهذا الأمير قصة يرويها لنا المؤرخ محمد عبد الله عنان في موسوعته "تاريخ الأندلس"، وهي من أفضل ما كُتب في تاريخ المغرب والأندلس.

 

فقد أحزن أمير الملثمين ما عليه قومه من جهل بأمور الدين، حتى إذا كانت سنة 427 هجريا/ 1035 ميلاديًا استخلف ولده في الرئاسة وسافر إلى الشرق ليؤدي فريضة الحج.

 

وفي طريق العودة عرج على مدينة القيروان، وهنالك التقي بالفقيه "أبي عمران الفاسي" شيخ المذهب المالكي آنذاك.. وتأثر بوعظه وعلمه، وتاقت نفسه إلى أن يري في بلاده فقيها مثله..

 

وبعد نقاش اتفق الاثنان على إرسال داعية إلى بلاد الملثمين يعلمهم ويفقههم في الدين.. وعرض أبي عمران الأمر على تلاميذه فلم يقبل منهم أحد، فبلاد الملثمين بعيدة، وعيشتهم شظف، والمغامرة خطيرة!! فكتب الفاسي له كتابا إلى أحد تلاميذه من الفقهاء والعاملين في مدينة سجلماسة واسمه "وجاج بن زلوا اللمطي" وكان فقيها ورعا..

فندب لتلك المهمة أنبه تلاميذه، وهو عبد بن ياسين الجزولي الذي ستقوم على يديه دولة المرابطين.

 

وتتناقل قبائل الصحراء فيما بينها أنباء ذلك الفقيه الشاب، فأقبلوا عليه كأمواج البحر.. فأخذ يبث بينهم أحكام الدين، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لكن دعوته لم ترق لبعض السادة منهم والذين أنفوا المساواة بالعبيد، "ومطالبتهم بالإقلاع عن تقاليدهم المنافية للإسلام مثل الزواج بأكثر من أربع، وكان من الأمور الشائعة بينهم، وغير ذلك من التقاليد المغرقة"، فأخذوا ينصرفون عنه، ويعرضون عن تعاليمه..بل أن نفرا منهم هاجموا داره، ونهبوا ما فيها.

 

وظن هؤلاء أنهم بفعلتهم هذه قضوا على الدعوة الناشئة.. لكن عبد الله بن ياسين قرر أمرا غريبا!

 

أدرك أنه لا يكفي أن يكون معك الحق لكي تنجح، بل لابد للحق من قوة تسانده وتدعمه وتدافع عنه.. وعندئذ اعتزم بن ياسين وصديقه الوفي يحيي بن إبراهيم الانقطاع إلى العبادة والزهد، في جزيرة تقع في مصب نهر السنغال.. وانضم إليه في ذلك سبعة رجال فقط!

 

وما لبث أن اشتهر أمره، ووفد عليه كثير من الرجال الأشراف ممن أثروا الزهد والعبادة، فعكف على تثقيفهم ووعظهم، وسماهم بـ"المرابطين" للزومهم رابطته.

 

وحينما اكتملت فترة الإعداد، بدأ دور الجهاد. فبعثهم إلى أقوامهم، لينذروهم، ويطلبوا منهم ترك البدع والضلالات، وإتباع أحكام الدين الصحيح، ويدخل بن ياسين في قتال مع مخالفيه.. حتى أذعنوا للطاعة، وأسلموا إسلامًا جديدًا، وبايعوه على الكتاب والسنة. كما دخل في حروب مع قبائل أفريقيا المدارية، وكان أول من وصل بالإسلام إلى هناك، وذلك حادث تاريخي بالغ الأثر.

 

وخلال حروب الدولة الجديدة يموت الأمير يحيي الجدالي، ويتولى مكانه "يحيي بن عمر اللمتوني"، ومن بعده يتولى شقيقه الأمير أبو بكر بن عمر في عام 447 هجريا.

 

كان قلب أبو بكر يجيش بحب الإسلام، والرغبة في الاستشهاد، يضرب لجنوده المثل في الشجاعة والقتال، لا تبصره إلا في قلب ساحة الوغى يصول ويجول.

 

يبدأ جهاده بقتال قبائل "برغواطة"، التي كانت تدين بمذهب يخالف الإسلام، أسسه رجل يهودي يسمي "طريف بن برباط"، استغل ما عليه القوم من بدواة وجهالة، فادعي النبوة، وأنه نزل عليه قرآن جديد، وزعم أنه المهدي المنتظر، وأباح الزواج بأي عدد من النساء!

 

سارت جيوش المرابطين لقتال هؤلاء الأقوام الكفرة الوثنين، وتنشب بين الفريقين معركة هائلة، ويصاب ابن ياسين بجراح قاتلة، ورغم حشرجة الموت، يوصي قومه بعدم التنافس على الرياسة:"كونوا على الحق وأخوانا في الله، وإياكم والمخالفة والتحاسد".

 

وباستشهاد ابن ياسين في 451 هجريا - 1059، تجتمع السلطة في يد الأمير أبو بكر، فكان أول ما فعله بعد دفن الإمام، متابعة حرب "برغواطة"، فحشد سائر قواته، وجد في قتالهم، وأثخن فيهم، حتى أذعنوا إلى الطاعة، وأسلموا إسلاما جديدا.

 

وبينما هو يواصل انتصاراته، ويفتتح المدن، إذ وفد عليه رسول يبلغه بخير أزعجه، خلاصته أن قبيلة جدالة وثبت بقبيلة لمتونة في الصحراء فأنزلت بها مذبحة، كما غارت القبائل الوثنية على مدن الجنوب.

 

كان في استطاعة أبي بكر أن يبقي في الشمال حيث الهدوء والراحة والخضرة، مستمتعا بجوار زوجته الحسناء "زينب النفرواية" التي قيل في جمالها وذكائها الكثير، ويرسل أحد قواده، لكنه لم يفعل ذلك.

 

ويقرر أبو بكر الذهاب بنفسه لرأب الصدع بين الأخوة في الدين، ويٌسلم أمر القيادة إلى رجل معروف للمرابطين بدينه وفضله وعدله وورعه، هو ابن عمه "يوسف بن تاشفين".

وفي ذي القعدة 453 هجريا / ديسمبر 1061 ميلاديا يأخذ أبو بكر معه نصف الجيش، فقضى على أسباب الشقاق بين القبائل، لكنه أبصر فوجد قبائل أفريقية تعبد الأصنام والأشجار. وبصبر شديد بدأ يدعوهم إلى الإسلام، ويبين للقبائل الأفريقية الوثنية سماحته، فأخذوا يتعجبون: كيف لم نسمع بهذا الدين من قبل؟! كيف نعبد أصناما ولا نعرف رب العالمين؟! وتثمر جهود الأمير الشيخ، فيدخل الإسلام خلق كبير من القبائل الأفريقية.

 

وحينما تطول غيبة الأمير أبو بكر في الجنوب، يبدأ بن عمه في تشييد دولة المرابطين، يفتتح المدن، وينشئ عاصمة للدولة الوليدة، وهي مدينة مراكش عام 1062م.

 

وتشرق الشمس وتغيب، وتمر السنون تتلوها السنون، ثم ينادي رسول.. إن قد عاد الأمير أبو بكر من الجنوب.

 

كان الموقف دقيقا للغاية، فقد حانت ساعة تقرير المصير، وتحديد لمن سيكون مُلك كل تلك البلاد الشاسعة؟ أللأمير أبو بكر الذي ذهب للجهاد ولم يعد إلا بعدها بأعوام طويلة؟ أم للأمير يوسف الذي شاد أركان الدولة بعبقريته وجهاده؟

 

يختلف المؤرخون في سبب عودة الأمير أبو بكر، فيقول بعضهم أنه بعد أن نظم شئون الصحراء، وقضي في غزواته بضعة أعوام، نمي إليه ما وفق إليه بن عمه من الفتوح العظيمة، ومن ضخامة السلطان واستقراره، فقرر أن يعود للمغرب ليسبر غور الأمور، وربما جال بخاطره أن يعزل يوسف، وأن يسترد هو سلطانه باعتباره أمير المرابطين الشرعي.. بينما يري البعض الأخر من المؤرخين أن أبا بكر جاء لأمر آخر!!

 

خرج يوسف من مراكش، وتلقي ابن عمه في منتصف الطريق، ثم جلسا على الأرض.. ويطيل أبو بكر النظر إلى يوسف، ثم يقول:  

" يا يوسف.. أنت ابن عمي ومحل أخي، وأنا لا غني لي عن معاونة أخواننا في الصحراء ولم أر من يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك، وقد خلعت نفسي لك.. وما وصلت إليك إلا لأسلم لك الأمر، وأعود إلى الصحراء".

يا له من موقف يستحق أن تقف عنده كتب التاريخ متأملة..

فهذا الأمير يتنازل عن ملكه العريض ببساطه بالغة قائلا إنه قد نذر نفسه للحياة في الصحراء والجهاد!

لكن بعض مؤرخينا يرفضون أن يتركوا هذا الموقف دون أن يضيفوا إليه من خيالهم، فيقولوا أن الأمير يوسف شعر بالخطر يهدد سلطانه من عودة أبو بكر، فاستشار زوجته "زينب النفرواية" في الأمر، وكان قد تزوجها بعدما طلقها أبو بكر اللمتوني عند ذهابه للجنوب، وكانت إلى جانب جمالها من أعقل نساء زمانها، وأبعدهن نظرا...

فأشارت إليه بأن يستقبل أبو بكر بالجفاء والغلظة، ويشعره بقوة سلطانه، ويلاطفه مع ذلك بالهدايا بما يصلح لحياة الصحراء.

 

ويلتقيا الرجلان، ويشعر أبو بكر مما أبداه يوسف، وتعاليه في السلام عليه وهو راكب فرسه أنه حريص على سلطانه مستعد للدفاع عنه. فزهد في القتال وأوصاه بالعدل والرفق، وعاد إلى الصحراء، وهنالك استأنف الغزو والقتال.

 

تلك الرواية يهاجمها الكاتب إبراهيم الجمل في كتابه "يوسف بن تاشفين" ويري أن أبا بكر الرجل المتقشف الورع الذي يلبس الصوف وقد تعود على الخشونة ليس في حاجة إلى ما تقترحه زينب أن كان هذا صحيحا.

 

ويري أن عودة الأمير أبو بكر كانت لتسليم الأمير يوسف قيادة الدولة، بعدما قام بتلك الأعمال الجليلة، والمواقع الحربية الخالدة، والتنظيم الداخلي، فوجد أن يوسف أجدر بالأمر منه بأن يتولي أمر المسلمين، وأولي منه لتقواه ودينه وعقله وتفكيره.

أياً كان الأمر، فقد تنازل أبو بكر عن ذلك المُلك الشاسع راضيا، وحتى إذا كانت عودته لاستعادة ملكه، فلابد أنه كان يدرك قوة جيش بن عمه، ولو أراد الدخول معه في صراع وحرب وقتال على لفعل، ولتكن حربا أهلية، ولتزهق أرواح الآلاف من البشر الأبرياء، طالما بقي هو على سدة الحكم!

 

لكنه أبدا لم يكن من طراز أولئك الحكام الذين يكونون دوما على استعداد للتضحية بكل شئ مقابل الاستمرار -ولو يوما-على كرسي السلطان.

..

ويعود أبو بكر إلى أدغال أفريقيا يدعو إلى الإسلام، فأدخل إلى نور الله 15 دولة أفريقية.. غينيا بيساو، سيراليون، ساحل العاج، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، غانا، وتوجو، الكاميرون، أفريقيا الوسطى، والجابون.

 

يعيش حياته زاهدا، مجاهدا وسط جنوده، يغزو في كل عام مرتين، يفتح البلاد، ويُعًلم الناس الإسلام.. وفي أحدي غزواته عام 478 هجريا – 1085 ميلاديا يصيبه سهم، فتصعد روحه للسماء.

وكلما ارتفع أذان في الغرب الأفريقي... ثقل ميزان أبو بكر اللمتوني عند الله يوم القيامة.