الأحد، 27 أكتوبر 2013

المتلونون !!



كان مفتش البوليس يعبر ساحة السوق , منتشيا , منتفخا , يدق الأرض بقدميه وكأنه يريد أن يخرقها أو يبلغ الجبال طولا .. ومن خلفه يركض مساعده , حاملا في يده ما صادره من فاكهة اغتصباها من أحد الباعة المساكين.

كانت الساحة ساكنة..
وفجأة انطلق صوت كلب يعوى من أثر ضربة أصابته وصوت آدمي يقول: أهكذا تعض , أهكذا!!.. أيها الكلب الحقير! حذار أن يفلت أيها الصبية؟ أقبضوا عليه! آه".
التفت المفتش إلى مصدر الصوت..فوقع بصره على هذا المشهد..
كلب يخرج عدوا من محل تاجر الأخشاب.. ومن خلفه رجل, يرتدي قميصا مفتوح الصدر , ويميل بكل جسمه إلى الأمام وقد أمسك بالكلب من إحدى ساقيه الخلفيتين.
وفي لمح البصر انشقت الأرض عن أناس ملئوا الساحة , وجوههم ساهمة , يطل حب الفضول من أعينهم.. تتطلع إلى تلك المباراة بين الرجل والكلب.

صاح مساعد المفتش: يبدو هذا التجمع أشبه بتجمهر عام يا صاحب السعادة.

اقترب المفتش من الجمع , فأفسحوا له الطريق.. فوجد الرجل الصارخ هو صائغ.. وقد رفع أصبعه الدامي في السماء وكأنه علامة النصر.. بينما استلقي الكلب وقد باعد ما بين رجليه الأماميتين , وجسمه يرتعد من الخوف.. جرو صغير.. أبيض اللون ؛ مدبب الأنف ؛ تنطبع على ظهره بقعة صفراء.. وكانت عيناه مليئتان بالدموع تعبر عما به من بؤس وشقاء.

أخذ الصائغ ينفخ في قبضة يده ويقول: يا صاحب السعادة.. كنت أقضي أمرا لي..فهجم على هذا الشيطان وعض أصبعي. وأنا عامل مهنته دقيقة فأمر أصحابه يا صاحب السعادة ليدفعوا لي تعويضا.. إذ ربما بقيت أسبوعا لا أستطيع أن أحرك أصبعي.

ألقي المفتش نظرة على الكلب وقال: حسن.. حسن جدا.. كلب من هذا؟ لابد أن أعُلم الناس كيف يتركون كلابهم هكذا تؤذي الناس. فليعلموا أن هناك قانونا.. فليعدم هذا الكلب حالا.. إني أسأل: كلب من هذا؟
فصاح أحد الجماهير: أظن أنه كلب الجنرال ؟
وهنا تمتم المفتش وقال لمساعده "كلب الجنرال.. هيا ساعدني على انتزاع معطفي..أوه, ما أشد حرارة الجو! لاشك أن الجو ينذر بالمطر".
ثم التفت إلى الصائغ: وكيف تأتي للكلب أن يعضك؟ كيف استطاع الوصول إلى أصبعك وأنت الضخم الكبير وهو الكلب الصغير؟ لابد أن تكون قد خدشت أصبعك بمسمار ثم تلقي باللائمة على الكلب لتقبض تعويضا من أصحابه؟!!

وصاح أحد الحاضرين: لقد أحرق أنف الكلب بسيجارته على سبيل المزاح , فنهشه الكلب , فهذا الشخص دائم البحث عن الشر يا صاحب السعادة.
وهنا انبري مساعد المفتش يقول بصوت عميق رزين: كلا ليس هذا بكلب الجنرال , ليس لديه كلاب من هذا النوع..إن كلابه كلها كلاب صيد.
فسأله المفتش: أواثق أنت من هذا الكلام؟
- كل الوثوق يا صاحب السعادة.

فقال المفتش أنك على حق! فكلاب الجنرال غالية الثمن حسنة التربية , أما هذافانظر إليه! أنه جرو قبيح هزيل! إني أتساءل كيف يتأتي لإنسان أن يقتني مثله.. أأنتم مجانين؟ لنقضي عليه في الفور.
وطلب من الصائغ إلا يترك حقه من أصحاب الجرو.
فقال المساعد من جديدة وكأنه يكلم نفسه: "ومع ذلك فقد يكون من كلاب الجنرال.. لا يستطيع أحد أن يبت في ذلك من مجرد نظرة.. فقد رأيت كلبا مثله ذات يوم عند الجنرال".

وصاح صوت من بين الجمهور يقول: لا جدال في أنه كلب الجنرال.

فانطلق المفتش يقول: ساعدوني على ارتداء معطفي , فالجو بارد , لقد شعرت بهبة ريح.. وهاأنا ذا ارتعد. خذ الكلب أيها المساعد إلى بيت الجنرال , وقل لهم إنني وجدته فأرسلته إليهم , فليعتنوا به , وأرجوهم إلا يتركوه وحده في الشارع , فهو يبدو أنه كلب لطيف ثمين , قد يصيبه الضرر من أمثال ذلك الصائغ الذي يحرق سجائره في أنف الحيوانات . فالكلب حيوان رقيق.. أما أنت أيها الأحمق فكف عن رفع أصبعك القبيحة على الملأ.. فالذنب ذنبك أنت.."

ولم يكد المفتش يتم كلامه حتى قال أحد الجمهور: ها هو ذا رئيس حظيرة كلاب الجنرال فاسألوه ..أهو من كلابكم؟
فأجاب: ماذا تقول؟ ..لم يحدث قط أن اقتنينا كلبا مثل هذا من قبل!.

فقال المفتش: لم نعد بحاجة إلى أي تحقيق ..فهو كلب ضال.. اقتلوه وقد انتهت المسألة ولا تضيعوا وقتكم.

وواصل الرئيس كلامه: أنه ليس من كلابنا ولكنه من كلاب أخو الجنرال.

فصاح المفتش متلهفا وقد انفرجت أساريره عن ابتسامة كلها حماس: ماذا كلب أخو الجنرال.. إني في غاية السرور! خذه.. إنه كلب لطيف صغير! أيمكن أن يعض أصبع هذا الضخم؟ هاهاها ! أيها الكلب العزيز, لا ترتعد.. إنه جوعان.. يا له من جرو جميل!.
ويخرج المفتش ومساعده من الساحة, وقد انفجر الجمهور في ضحك صاخب.. وينظر المفتش إلى الصائغ: سأسوى حسابك فيما بعد!!!
*******************
 قصة من الأدب الروسي للقصاص تشيخوف 
مع بعض التلخيص
وهي تصلح لكل عصر فيه متلونون 

ليست هناك تعليقات: