الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

طفولة مش ولابد





هذا مقال رائع للكاتب أسامة غريب أحببت أن تشاركوني متعة قراءته والاستفادة منه
 
 
" بين أن تختبر الجوع بأحشائك وخمسين كتابا عن القمح، مسافة من التجربة التى تذيب الجلاميد».. هذا كلام الشاعر قاسم حداد، وأنا أصدقه.
أرسلنى والدى يوما وأنا طفل صغير لأشترى بعض الأغراض من عند البقال المجاور للبيت. بعد إتمام المهمة وفى مشوار العودة، الذى لا يتجاوز عشر خطوات، وبينما أحمل فى يدى كيس البقالة وشلن ورق هو ما تبقى من الفلوس التى أعطانيها أبى، برز لى فتى كبير من شبّيحة المنطقة فانقضّ علىّ، وفى حركة خاطفة انتزع من يدى «الحتة أم خمسة» ثم أطلق ساقيه للريح. جريت وراءه وأنا أصرخ حتى احتبس صوتى، لكننى لم أستطع اللحاق به، فعدت إلى البيت مروعا مقطوع الأنفاس أجر أذيال الخيبة 
.
حكيت ما حدث فكانت النتيجة علقة ساخنة بالعصا من والدى، ألهبت كل جزء فى جسمى الصغير. حاولت أن أشرح أننى لم أهمل وأن الموقف كان أكبر منى، فالفتى كبير وقد باغتنى وأنا أحمل كيسا كبيرا خفت أن يقع وتتبعثر محتوياته لو قمت بمطاردته.. وحتى المطاردة لم تكن لتفلح وإن لحقت به، وذلك للاختلال الجسيم فى موازين القوة، وربما أصابنى بمطواة أو موس حلاقة. لكن كل هذا لم يشفع لى ولم يجعل أبى يقتنع بمبرراتى ويتنازل عن اتهامه لى بالإهمال والرقاعة.
بعد هذا اليوم بنحو ربع قرن تكرر الموقف بحذافيره مع ابنى، الذى أرسلته لشراء الجرائد من على الناصية فواجه موقفا مماثلا قمت برصده من البلكونة وشاهدت شبيحا كبير الحجم يقترب من ولدى ويخطف من يده الفلوس التى كانت معه، وشادت الولد يعود إلى البيت باكيا وكل جزء منه يرتعش من الصدمة والخوف من العقاب.
عادت بى الذاكرة إلى يوم عدت إلى البيت مهزوما مكسور الوجدان، وانخلع قلبى لرؤية ولدى خائفا فأخذته فى حضنى لأهدئ من مخاوفه، وقلت له: طز فى الفلوس.. المهم أنك بخير، ثم بذلت جهدا فى إقناعه بأنه ليس جبانا ولا خوافا لكنه واجه موقفا أكبر منه ولم يكن مما حدث بد، وأقنعته أنه ليس عليه أن يخجل من الموقف لأننى أنا نفسى.. بابا الجبار الذى يأتى بالعجائب والمعجزات حدث معى الأمر نفسه زمان ولم أستطع أن أفعل شيئا!
لا يعنى رد فعلى وتصرفى مع ابنى بشكل مغاير لما تصرف أبى معى أننى أفضل من والدى الرجل الطيب المكافح، ولا يعنى بأى حال من الأحوال أننى أحب ابنى أكثر مما كان أبى يحبنى، أو أننى أكثر حنوا على أولادى من حنان أبى -رحمه الله- على صغاره.. يعلم الله أن هذا الرجل كان يبكى فى صمت إذا مرض عيل من عياله، وكان لديه استعداد فطرى مثل معظم الآباء لأن يفتدى أولاده بحياته. لكن الفرق بينى وبينه يتمثل فى أن أبى كان يحصل على المال بصعوبة وبعد كثير من الجهد، وكان إحساسه بالمسؤولية جسيما وفى رقبته كوم لحم وأفواه كثيرة تطلب الطعام، الأمر الذى كان يضغط على أعصابه ويفقده الحكمة والهدوء، فضلا عن شىء آخر هو أنه كان يخشى أن التهاون فى مثل هذه الأمور مع أحد الأبناء قد يجعل بقية الأبناء يعتادون الإهمال فينفرط عقد البيت وينهار البناء الذى كان «متلصما». هذا فى حين أننى بفضل ربنا لم أكن فى نفس الموقف ولم أتعرض للأهوال التى صادفها والدى، فامتلكت هدوءا أكثر فى التعامل مع الموقف ورأيت الصورة من منظور مختلف، فاستطعت أن أتفهم موقف ولدى وأن أبدد مخاوفه.
لعن الله الظروف التى جعلتنى أقضى طفولة لم أشعر وأنا أعيشها أنها سيئة، لكننى أرتجف الآن حين أتذكرها!

ليست هناك تعليقات: