الأحد، 27 أكتوبر 2013

الخندق ..مصنع الرجال




كانت غزوة الخندق من أشد المعارك في تاريخ الرسول صلي الله عليه وسلم .. صحيح أن عدد القتلى من المسلمين والكفار كان يعد على الأصابع إلا أنها كانت معركة أعصاب ..

بدأ الأعداد للمعركة رجل يهودي يكن الحقد على الإسلام ونبيه , هو حيي بن أخطب الذي ساه جلاء يهود بني النضير عن المدينة ..فذهب في وفد إلي مكة يحثها على قتال محمد في معركة تجتمع فيها العرب على المدينة فتقتلعها من جذورها ولا يبقي للإسلام مكان في الجزيرة العربية.
علم الرسول من عيونه التي بثها في كل مكان أن العرب جميعا واليهود قد اجتمعوا على حربه. قريش , بني غطفان , بني مرة , بني فزارة , أشجع , بني سليم , بني سعد واليهود.
أقدمت الأحزاب في جيش يتحرك كالجبال في عشرة آلاف مقاتل.
هي معركة تحديد المصير إذا..
لكن كيف المواجهة
فأن المواجهة مع هذه الجيوش الضخمة في ساحة ممهدة ليس طريق النصر , فما عسي أن تصنع تلك القلة المؤمنة مع هذا البجر اللجب؟!

هنا كان لابد للمكر والدهاء أن يطل برأسه .. فالحرب مكيدة
وبرزت الفكرة التي انتصرت على الجيوش ذات العدد والعتاد.

عرض الرسول الأمر على أصحابه وشاورهم في الأمر , وقال لهم : هل ننزل من المدينة أو نكون فيها ؟ فأشار عليه الصحابي سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة , وقال : يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا عليهم.

كان سلمان قد شهد الحرب الضروس التي نشبت طويلا بين فارس والروم .. وهو اليوم يعرض على المسلمين فكرة حربية من بلاد فارس .
نالت الفكرة رضا الجميع .. وبدأ المسلمون في حفر الخندق.

لقد أشرك الرسول الجميع في القرار , والإدارة الحديثة تحثنا على إشراك العالمين عند اتخاذ القرارات لضمان تنفيذها بحماس .. ولله درك يا رسول الله.
كنت عبقريا في دعوتك ورسالتك وتعاملك مع الجميع.
ولله درك .. لم تقل أن فارس بلاد كفر .. ولن نستعين بأفكار الكفار .. عبدة النار..بل كنت قلبا مفتوحا على العالم .. تأخذ منه ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين.

لم يكن حفر الخندق بنفس السهولة التي نكتب بها الآن هاتين الكلمتين "حفر الخندق".
ومن أراد أن يعرف ما وجه الصعوبة فليقرأ معي السطور التالية.
***********
لقد أعد الله المدينة الرسول منذ القدم لتكون حصنا للإسلام .. فأرضها محمية من الجنوب والشرق والغرب بصخور مدببة .. نطلق عليها أرض "الحرة" .. وقد تشكلت نتيجة زلازل وبراكين قديمة.. لا تستطيع مدرعة أو دبابة أو خيل أن تمر عليها..
ومن ينظر إلي الخريطة يجد أن المدينة أشبه بحدوة الحصان.. مغلقة من جميع الجوانب إلا الشمال .. ولهذا فقد اتخذ الرسول قراره بحفر الخندق في أضيق مكان في شمال المدينة بين الحرتين الشرقية والغربية.

كم هي المسافة بين الحرتين؟
-  4.5 كيلو ونصف.
ما هو العمق المطلوب يا رسول الله؟
-         5 أمتار
وما هو العرض ؟
-         تسعة أذرع
كم هي المدة المطلوبة لحفر هذا الخندق؟
-         أقل من 10 أيام.
وما هي الأدوات التي سنستخدمها في الحفر؟
-         مساحي وفؤوس ومكاتل (مقاطف ) نستعيرها من يهود بني قريظة الذين بقوا على العهد.

تخيل - عزيزي القارئ - الجهد المطلوب .. أرض المدينة صخرية .. والمطلوب حفر هذا الخندق في تلك المدة القصيرة وبهذا العمق والعرض .
وكم عدد الذين سيشتركوا في الحفر؟
-         كل الرجال القادرين في المدينة – 1500 رجل.

وبدأ العمل .. هل تم بطريقة عشوائية؟؟ .. كل شخص يقف في المكان الذي يحلو له ؟ لا .. ليست العشوائية من الإسلام .. أنت مع "محمد" .. و"محمد" هو أستاذ التخطيط.

كان عدد الرجال القادرين على الحفر قرابة 1500 رجل , قسمهم النبي إلي مجموعات .. كل مجموعة من 25 رجلا .. وشدد على أن كل مجموعة ستحفر جزء من الخندق هي التي ستتولى الدفاع عنه عندما يأتي الأحزاب.

وبحسبة بسيطة .. أصبحت كل مجموعة مسئولة عن حفر 60 متر , بالعمق والعرض المطلوبين. وللتأكد من المواصفات والشروط المطلوبة في الخندق يقوم أبو بكر عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق بمراقبة العمل والمرور على كل المجموعات .

وماذا عنك يا رسول الله ؟
-         سأشترك معكم في الحفر.. بل سأعمل في أشق عمل ..رفع التراب من الخندق.
كم سنك يا رسول الله ؟
-         54 عاما

.. عليك أزكي السلام يا حبيبنا يا محمد
 وفي آخر اليوم .. يصعد النبي إلي "جبل سلع" .. وهو جبل صغير يشرف على الخندق.
وماذا عن الطعام والشراب لنتقوى حفر تلك الأرض الصخرية؟
- المدينة في زمان عسرة ومجاعة .. والأصحاب يشدون على بطونهم الحجر من الجهد والجوع . ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون زادا. أما الرسول فلا يضع حجرا واحدا بل يضع حجرين.

لماذا لم تحدث معجزة من السماء وتحفر الخندق؟
لابد للمسلمين أن يبذلوا ما في وسعهم .. هذه رسالتكم .. ولن تنالوا الجنة إلا بالعمل.
.........
ويردد المسلمون أثناء الحفر

اللــــهم لولا أنت مـا اهتدينا           ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن ســـــــكينة علـــــينا           وثبت الأقدام أن لاقــينا

والمشركون قد بغوا علــينا           وإن أرادوا فتنة أبــــينا


وأقبلت الأحزاب في جيوشها .. فلم يجدوا محمدا عند أحدا .. فاستمروا في السير وهم فارحين بالغنيمة التي اقتربت أن تقع في أيديهم .لكن لشدة ما أذهلتهم المفاجأة .. لقد وجدوا حفرة عميقة أمام المدينة .. هذا شئ لم يعهدوه من قبل. هذا جبن. لا.. أن الحرب خدعة. 
كانت الأحزاب تمني نفسها بقتال يوم يسير ..يوم كيوم أحد ..ينالوا فيه من المسلمين ويبيدوهم عن بكرة أبيهم .. ويرجعون إلي بيوتهم فارحين بالنصر على الإسلام.
لله درك يا سلمان.
لقد أنقذت الإسلام من هذا الطوفان
واستحققت أن يقول لك : سلمان منا آل البيت.
ويا له من شرف.
ضرب الأحزاب الحصار حول المدينة
وأصبح المسلمون كالجزيرة المنعزلة وسط طوفان يهددهم بالليل والنهار
وبين الحين والحين يتطلعون: هل اقتحم الخندق أحدا.
كان الغضب يغلي كالمرجل في صدور المشركين. لقد خدعهم محمد بهذا الخندق. 
واشتد البلاء على المسلمين .. ومكث المشركون 21 ليلة يحومون كالذئاب الجائعة تبحث عن ثغرة في الخندق لتنقض على المسلمين الذين لم يكن بينهم وبين الموت إلا عبور الأحزاب للخندق ليغمر الطوفان الأسود المدينة.
وظن المؤمنون الظنون.
ولما استيئاس المشركون فكر حيي بن أخطب أن يوجه الطعنة القاتلة للمسلمين من الخلف. ذهب إلي كعب بن أسد .. سيد بني قريظة .. وما زال به حتى جعله ينقض ميثاقه مع محمد.
الآن أصبح المسلمون في أشد موقف. الأحزاب من الشمال. وبني قريظة يهددوهم من الخلف. ولا نجد وصفا لهذا الزلازل الذي حاق بالمؤمنين إلا كتاب الله:
" إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12)"
لقد اجتمعت الدنيا على المسلمين..
21 ليلة قاسية عانوا فيها من الحصار والجوع والبرد.
21 ليلة يواجهون وحدهم بحر طام من الكفر.
لكن .. تدبير الله ومكر الله فوق كل تدبير ومكر.
ها هو ذا يقبل على رسول الله.. 
تسلل من مُعسكرِ قومه تحتَ جُنحِ الظلامِ ومضى يسرع في خطاه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ..
فلما رآه النبيُّ عليه الصلاةُ والسلام ماثِلاً بينَ يَديه قال:  نُعيمُ بنُ مسعودٍ ؟! .
قال: نَعم يا رسول الله.
قال: ما الذي جاء بك في هذه الساعةِ ؟!!.
قال: جئت لأشهدَ أنْ لا إلهَ إلًّا الله, وأنَّك عبدُ اللهِ ورسولُه, وأنّ ما جئت به حقٌّ ...
ثم أرْدَف يقول: لقد أسلمتُ يا رسول الله وإن قومي لم يَعلموا بإسْلامي ...
فَمُرْني بما شئتَ ..
فقال عليه الصلاةُ والسلامُ: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا أن استطعت..فان الحرب خدعة.
فقال: نعم يا رسول الله ... وسَترى ما يَسُرُّك إن شاء الله.
رجل واحد لكنه يملك عقلا له دهاء بألف رجل..
جلس قليلا وفكر ودبر..
كان يعلم أن ذو حظوة وتصديق عند أبو سفيان واليهود .. فماذا يقدم للإسلام وهو في أول يوم له في دين محمد؟!
شد الرحال حتى أتي بني قريظة وقال لهم: يا بني قُريظةَ, لقد عَرفتم وُدِّي لكم وصِدقي في نُصحِكُمْ.
فقالوا: نعم, فما أنْتَ عِندنا بمتهم..
فقال: إن قريشاً وغطَفاَنَ لهم في هذه الحربِ شأنٌ غير شأنِكمْ.
فقالوا: وكيف ؟!
فقالوا: أنتم هذا البلدُ بلدُكم, وفيه أموَالكم وأبناؤكم ونساؤكم وليس بِوُسعكُم أن تُهجِروه إلى غيره .. أما قريشٌ وغطفانُ فَبلدهم وأموالهم وأبناؤهم ونساؤهم في غيرِ هذا البلد... وقد جاءوا لِحربِ محمد, ودعوكُم لِنقضِ عهدهِ ومُناصرتِهم عليهِ فأجبتموهم.
فإن أصابُوا نجاحاً في قتالهِ اغتنموه, وإن أخفقوا في قهرِه عادوا إلى بلادهم آمنين, وتركوكم له, فينتقم منكم شرَّ انتقامٍ ...
وأنتم تعلمون أنّكم لا طاقة لكم به إذا خلا بكم ...
فقالوا: صَدقت, فما الرّأُيُ عندكَ ؟!
فقال: الرأُي عندي ألا تُقاتلوا معهُم حتى تأخُذوا طائفةً من أشرافِهمْ وتجعلوهم رهائِن عندكم وبذلك تَحملونَهُم على قتالِ محمدٍ معكم إلى أنْ تنتصروا عليه أو يَفنى أخرُ رجل مِنكم ومِنهم ...
فقالوا: أشَرتَ .. ونَصَحْتَ ...
ثم خرج من عِندهم وأتى أبا سفيانَ بنَ حربٍ قائدَ قريشٍ وقال له ولمن معه: يا مَعشرَ قريش, لقد عَرفتُمْ وُدِّي لكم وعداوتي لمحمد ...
ولقد بلغني أمرٌ فرأيتُ حقّاً عليّ أن أُفضِي به إليكم, نُصحاً لكم أن تكتموه, ولا تذيعوه عَنِّي ... فقالوا لك علينا ذلك ...
فقال: إن بني قُريظةَ ندمُوا على مُخاصمتِهم لمحمدٍ, فأرسَلوا إليه يقولون: إنّا قد نَدِمنا على ما فَعلنا ... وعَزمنا على أن نعُود إلى معاهدَتك ومُسالمتِك.
فهل يرضيكَ أن نأخُذ لك من قريشٍ وغطفان رجالاً كثيراً من أشرافِهِم, ونُسلِمهُم إليك لتضرب أعناقُهم ...
ثم ننضمَّ إليك في محاربتهم حتى تقضِي عليهم. فأرسَل إليهم يقول: نعم ....
فإن بعثت اليهود تطلب منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم أحد ...
فقال أبو سفيان: نعم الحليف أنت .... وجزيت خيراً ...
ثم خرجَ نعيم من عندِ أبي سُفيان ومضى حتّى أتى قومَه غطفانَ, فحدَّثهم بِمثلِ ما حدّثَ به أبا سُفيانَ, وحذّرهم من ما حذّره منه.
أراد أبو سفيان أن يختبر بني قُريظةَ فأرسلَ إليهم ابنه فقال لهم: إن أبي يُقرئُكم السلامَ ويقولُ لكم: إنه قد طال حِصارُنا لمحمد وأصحابه حتى مَلِلنَا ....
وإنّنا قد عَزمنا على أن نقاتل محمدً ونفرغ منه ... وقد بعثني أبي إليكم ليدعوكُم إلى مُنازلَتِه غداً.
فقالوا له: إنّ اليومَ يوم سبتٍ, ونحن لا نعملُ فيه شيئاً ثُم إننا لا نقاتلُ معكم حتى تُعطونا سبعينَ من أشرافكُم وأشرافِ غطفان ليكونوا رهائِن عندنا.
فإننا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتالُ أن تُسرعوا إلى بلادكُم وتترُكونا لمحمدٍ وحدنا ...
وأنتم تعلمون أنّه لا طاقةَ لنا بِه ...
فلما عاد ابنُ أبي سفيان إلى قومِه وأخبرهم بما سَمعه من بني قريظة قالوا بِلِسانٍ واحدٍ: خسِئَ أبناءُ القردة والخنازير ... واللهِ لوا طلبوا منا شاةً رهينةً ما دفعنا إليهم ...
لقد نجح رجل واحد في تمزيق صفوف الأحزاب.
فكرة عبقرية دارت في خلده .. فقدم للإسلام نصرا في أول يوم لإسلامه.
وهبت ريح عاصفة قلعت خيام الأحزاب .. وانصرفوا عن المدينة يجرون أذيال الخيبة والخزي. 
وقال الرسول : اليوم نغزوهم لا يغزونا
واليوم .. مازال المسلمون وهم في أكثر أيامهم فرحا وشروا يذكرون غزوة الأحزاب. 
وفي صباح العيد تردد الخناجر من جميع مساجد الدنيا
"الحمد لله وحده.. صدق وعده .. ونصر عبده .. وأعزه جنده وهزم الأحزاب وحده"


ليست هناك تعليقات: