الأحد، 27 أكتوبر 2013

معركة "مجدو" .. والطريق القصير الصعب



 بعد كفاح طويل.. أخرج جنود مصر الهكسوس من أرض الوادي بعد احتلال دام قرابة المائة والخمسين عاما. لتقف ذئاب الهكسوس الجائعة على حدود مصر مع الشام ترمي ببصرها إلي هذا الوادي الخصيب وتمني النفس بالعودة , وإن كان فراعنة مصر في الدولة الحديثة قد وقفوا عقبة في وجه أطماعهم .
حتى جاءت الفرصة مع تولي الملكة "حتشبسوت" حكم مصر لمدة دامت قرابة العشرين عاما..
كانت ملكة مصر من أعظم ملوك عصرها .. ولأنها امرأة فقد اهتمت بالتعمير والإنشاء والرفاهية .. وهذا ما كانت مصر تنشده بعد الخراب الذي ألحقه بها الهكسوس.. ومع غروب شمس الملكة تجمعت الذئاب في بلاد سوريا تستعد للانقضاض على مصر.

جاءت الأنباء إلي فرعون مصر تحتمس الثالث بأن ملك "قادش" يجيش الجيوش .. و"قادش" هي بلدة على نهر العاصي على مسافة مائة ميل تقريبا شمالي دمشق.

أعلن الفرعون النفير , وزحف المصريون يحدوهم الأمل في القضاء على ملك قادش العاصي , فإذا تم ذلك كان كل ما عداه سهلا ميسورا , فسوريا بلادا ممزقة وولايات متفرقة يحكم كل منها أمير أو ملك وقد استطاع ملك قادش أن يوحدها في حلف ضد مصر إلي حين , فإذا قُضي عليه انفصمت عرى الحلف وعادت كل ولاية إلي سيرتها الأولي من الاستقلال الذاتي ويصبح في استطاعة "تحتمس" الاستيلاء عليها الواحدة تلو الأخرى.

لم يكن جيش مصر إذ ذاك كبير , لأن إهمال شئون الحرب في زمن حتشبسوت هبط به وأشاع الخمول في صفوفه . فلما نهض "تحتمس" بدأ يعد الجيش للحرب والغزو .
كان عدد الجيش 20 ألفا فقط .. وهنا يعلمنا تحتمس درسا رائعا .. فلم يصرف جهده في الاستزادة من عدد الجنود وإنما جعل كل همه هو تدريب هذا العدد المتوافر ليجعل منهم أسود في المعركة. فأحيانا يكون علينا أن نعمل بما تحت أيدينا من وسائل وطاقات .. وإذا احسنا استخدامها كان لنا فيها الكفاية .. أما إذا سوفنا الأمور وعلقنا الآمال على ما تأتي به الأقدار في المستقبل ففي ذلك ضياع للوقت – وهو جد ثمين – ومع طول الوقت يتسرب القنوط إلي القلوب.

أسرع جيش مصر , وعبر سيناء إلي غزة قاطعا 125 ميلا في مسيرة 10 أيام تحت شمس الصيف الحارقة.. وهي مدة قصيرة إذ علمنا أن معظم الجيش كان مشاة.
ومرة أخر يعلمنا تحتمس أن أمن مصر يبدأ من الشام , وخير لك أن تخرج من أرضك لتواجه عدوك من أن تقبع في بيتك تنتظر أن يهدم عليك بيتك.

كان العصاة قد تحصنوا في "حصن مجدو".. وهو حصن حصين إذ يقع بين سلسلتي جبال الكرمل. عقد فرعون مجلسا حربيا للتشاور مع قواده في الطرق التي يجب سلكها للوصول إلي الأعداء.
كانت هناك ثلاثة طرق. اثنتان طويلتان والأخرى قصيرة لكنها محفوفة بالمخاطر حيث تتطلب أن يعبر الجيش عبر ممرات جبلية ضيقة .. يسير الراكب أثر الراكب .. ومن تتعثر قدامه يهوي في مكان سحيق لتسحق عظامه على أحجار الجبل الحادة .

رأي ضباط الجيش أن يسلكوا أحد الطريقين الطويلين .. ففيهما السلامة . أما "تحتمس" فقد رأي أن يسلك الطريق القصير المختصر.
أثار هذا القرار الضباط الذين خشوا أن ينصب العدو للجيش الكمائن في المضايق الجبلية , ويفني الجيش دون أن يملك دفاعا عن نفسه. لكن فرعون حسم الأمر وقال " أي جنودي البواسل , سأسير أمامكم لأدلكم على الطريق .. فاتبعوا خطاي ولا تخشوا بأسا".

أحيانا.. تقابلنا في الحياة خيارات عدة .. ويكون إحداها أو بعضها طويلا لكنه ميسورا. وأخر قصيرا صعبا .. والروح الجريئة تسلك أقصرها وأصعبها .. ففيه حفظ للوقت وشحذ للهمة .. فالطريق الطويل مضيعة للوقت قاتل للحماسة .. وانظروا إلي ما فعله خالد بن الوليد بعد هذا التاريخ بعدة آلاف من السنين حينما عبر من العراق إلي الشام عبر الصحراء في مدة يسيرة كفلت له سرعة الانضمام إلي الجيش المسلم في معركته المرتقبة مع الروم , مؤثرا هذا الطريق المحفوف بالمخاطر على سلوك الطريق الطويل .. ولو سلكه لما كان خالد بن الوليد ولما نال اسمه هذه الشهرة التي طبقت المشرق والمغرب.. يكفي الآن أن تذكر اسم بن الوليد ليطير عقلك إعجابا ودهشة مما فعله في الحرب من أعاجيب.

نعود إلي "تحتمس" .. ها هو يقود جيشه عبر مضايق الجبال .. الرجل في أثر الرجل , وبعد مناوشات قليلة يعبر الجيش بنجاح وينساب في الوادي أمام مدينة "مجدو". لكن أين ملك قادش وحلفائه؟.

من غرائب المقادير أن ملك قادش وحلفائه استبعدوا أن يسلك جيش مصر الطريق الجبلي لما به من مخاطر , وظنوا أنه سيأتي من أحد الطريقين الطويلين .. فوزعوا قواتهم عليهما في انتظار "تحتمس" .. ولو كان الجيش المصري سلك أحد الطريقين الطويلين لحدث ما لا تحمد عقباه .. أما وقد عبر الطريق الجبلي فقد نزل على مقربة من حصن الأعداء وهم عنه بعيدون. لتحقق المفاجأة.
 
وبعد حربا أبلي فيها الجيش بلاء حسنا , وأظهرت أن فلاحين مصر ساعة الجد يصيروا أسود في الوغى يلقنوا الأعداء درسا قاسيا .. فر ملك قادش .. وضرب المصريين الحصار على "مجدو" حتى أنهكها الجوع .
وجاء وفد المدنية - وهو يرتجف - يطلب تسليمها ويعرض الجزية. ولما الرجفة؟ كان الآشوريين حينما يدخلون مدينة يجعلونها خرابا , ينعق فيها البوم.. ولا يتركون فيها حجرا على حجر.

تعاطف فرعون مع سكان المدنية المستسلمة ورضي بالجزية وأمر إلا تراق قطرة دم أخرى .. ولهذا يقول الأثري "ويجال" عن المصريين بأنهم كانوا أعظم شعوب العالم القديم رحمة وإنسانية.. وهو أمر يجب أن نعمله جميعا .. فلم نكن أبدا دعاة حرب .. ندك المدن على أهلها .. ولم يكن الفراعنة - كما يعتقد البعض- أهل تجبر وكبرياء. ولم يعرف المصري الحرب إلا دفاعا عن أرضه. بل لم تكون مصر جيشا إلا بعد أن ذاقت مرارة الاحتلال على يد الهكسوس.

أما فرعون مصر تحتمس الثالث فقد عاد إلي مصر مكللا بالغار .. وتاج النصر على رأسه .. وخرجت مصر عن بكرة أبيها لتستقبل المحارب الشجاع وجنوده الأسود .. بعد رحلة حربية استغرقت 6 أشهر .. وهي مدة قصيرة في مقاييس ذلك الزمان  .. ليستحق تحتمس لقب "نابليون الشرق القديم".
  
وبعد أربعة آلاف من السنين .. قاد الجنرال الإنجليزي "ألنبي" حملة على الدولة العثمانية زمن الحرب العالمية الأولي .. وسلك نفس الطريق الذي سلكه من قبل تحتمس الثالث.

ليست هناك تعليقات: