الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

القهوة .. نبيذ المسلمين يغزو العالم


على هضاب أثيوبيا حيث تكثر الأمطار والنباتات لاحظ راعي أثيوبي اسمه "ك
الدي" بان الماعز كلما التقطن ثمار حمراء لامعة يصبحن أكثر نشاطا ويتقاذفن ذات اليمين وذات الشمال , وذات ليلة .. شعر بالنعاس يحاول أن يتسلل إلي جفنيه .. فكر قليلا وقرر أن يتناول تلك الثمار الحمراء , لكن وجدت أسنانه صعوبة في مضغها .. فقام بغليها .. وعندما تناولها أصبح أكثر نشاطا واستطاع أن يتغلب بها على النوم .

وفي الصباح أخذ الحبوب إلي أهل قريته , وقدمها هدية إلي رئيس القرية , فرفضها بحجة أنها من الشيطان , وقذفها بالقرب من النيران , فتحمصت , وفاحت رائحتها الذكية , وعندما تناولها أهل القرية قالوا أنها هدية من السماء , ومن يومها وجابت القهوة جميع بيوت القرية وصارت هي مشروبهم المفضل.

وتقول أسطورة أخري جميلة أن هذا الراعي ينتمي إلي الجزيرة العربية واسمه "خالد" .
وبعيدا عن هذه الأساطير التي تجعل للتاريخ طعما جميلا , فقد انتشرت القهوة بين الناس , لكن انتشارها لم يكن سهلا ميسورا كما نتوقع , إذ ذاع عنها أنها من المسكرات , فصادفت تعنتا وتعصبا من فقهاء ومشايخ أفتوا بتحريمها  وعدوها مشروبا لا يتناسب مع مرؤة الرجل.

كانت القهوة قد ظلت مشروبا إثيوبيا لفترة طويلة حتى انتقلت إلي اليمن على يد أحد علماء الصوفية في القرن الخامس عشر الميلادي ويدعي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني الذي كان يتولي رئاسة الإفتاء , ويعد من رجال الدين المرموقين في ذلك العهد , كان قد  تصادف خلال زيارة له إلي أثيوبيا أن تعرف على مشروب القهوة وأعجب به .

وعاد الشيخ إلي اليمن , وطعم القهوة عالقا في ذاكرته , ولما مرض يوما اشتهت نفسه شرب القهوة , وطلب من أهله أن يحضروها من أثيوبيا , وشرب منها وسقي أهل بيته لما رأوا أثرها على جسمه الضعيف , وكيف أنها تنشط الذهن المكدود .

انتشرت القهوة بين مجالس الصوفية التي أطلقوا عليها "خمرة الصالحين" , وربما جاءت هذه التسمية ردا على علماء الدين الذين حاربوا القهوة ورأوا فيها نوعا من المحرمات المسكرات...
أما شيخنا الذبحاني فلم يبالي بما يقولون واستمر يتناولها خاصة بعد أن ترك الإفتاء وتفرغ إلي جلسات الصوفية , وهو أمرا زاد من عدد معارضي القهوة .

وصارت القهوة المشروب الأول عند جماعات الصوفية حيث تعينهم على السهر حتى مطلع الفجر... وللاستزادة منها زرعها الصوفية في مدنية "مخا" , ومن اسمها ظهرت كلمة "موكا" أحد أشهر أصناف القهوة الآن , وأصبحت اليمن هي موطن القهوة في الجزيرة العربية , ومنها سافرت إلي مكة .

وفي مكة انقسم المجتمع حولها إلي فريقين : أحدهما يحلل القهوة ويعتبرها منبهة للذهن منشطة للجسم , معينة على السهر , والأخر يري أنها من المسكرات , حتى أنهم بعضهم ساوي بينها وبين الخمر , واستعان الفقهاء المعارضين للقهوة بالسلطة الحاكمة , ويصدر حاكم مكة قرارا حكوميا عام 1511 بتحريم تناول القهوة , واستمر هذا التحريم قائما حتى عام 1524 ميلاديا.. ولتأييد القرار الحكومي بنص ديني اخترع بعض المتعصبين الجهلاء حديثا للرسول × يقول : "من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجه أسود من أسافل أوانيها".

وربما تكون الدوافع الحقيقية وراء تحريم القهوة "السياسة" وخاصة أن تناول القهوة كان يعني التجمع أو التجمهر من وجهة نظر الحكومة.

ولم يستمر التحريم طويلا؛ فقد أحُلت القهوة في أعوام تالية وتم تقديمها إلي حجاج بيت الله , ثم عاد الرافضين لشرب القهوة إلي تشديد حملاتهم على شاربيها , ونظموا حملات على أماكن بيعها وشربها , كما تم تشهير شاربيها , وإقامة الحد عليهم !!.

ولمقاومة انتشار القهوة صدرت فتاوى في باقي مدن الحجاز تحرم جلب القوة من مكة , وظل الأمر هكذا بين شد وجذب زمنا طويلا , ولم ينسي الناس أمر تحريمها إلا مع قيام الدولة السعودية الأولي.

ومن الحجاز انتقلت القهوة إلي مصر عبر الطلاب اليمينين الذين يدرسون في الأزهر الشريف , وصادفت القهوة معارضة من علماء الدين في الأزهر , وصدرت مرتين فتاوى بتحريم شربها , إلا أنها لم تكن بالقوة الكافية لمنع انتشارها بين الجماهير.

وقد ظلت القهوة زراعة عربية , وبذل المزارعون العرب قصارى جهدهم لمنع انتشار زراعتها في أماكن أخري من العالم , ولكن مع مرور الوقت بدأت بذور القهوة تعرف طريقها خارج جزيرة العرب.

وعرفت أوروبا القهوة من خلال تركيا وتجار البندقية , ومن الطريف أن الأوروبيين كانوا يعلمون أن الخمر محرمة في الشريعة الإسلامية , ولهذا فقد أطلقوا على القهوة اسم "نبيذ المسلمين".

ومن تركيا سرعان ما انتشرت القهوة في سائر المدن والبلدان الأوروبية , ومع حلول القرن السابع عشر كانت مدن عديدة في بريطانيا وفرنسا وهولندا وايطاليا وألمانيا تعرف دورا وصالات متخصصة في تقديم القهوة.

وعلى أيدي هولندا بدأت زراعة القهوة في الشرق الأقصى , وسارت بريطانيا وفرنسا على نفس الدرب وزرعت بريطانيا مستعمراتها في العالم الجديد بالقهوة , ثم انتقلت زراعتها إلي أمريكا الوسطي والجنوبية حيث يتوافر المناخ الملائم . وتعد القهوة اليوم من أهم المحاصيل الزراعية في البلدان النامية.

ومن الطريف أن القهوة واجهت منافسة شرسة مع الشاي في المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية , حتى ارتفعت شعبية القهوة بعد وقع حادث غريب , فقد أصدر البرلمان البريطاني في عهد الملك جورج الثالث قرارا بفرض ضرائب مرتفعة على الشاي , وهو أمر أغضب المستوطنين , وشهد ميناء مدينة بوسطن الأمريكية أول احتجاج شديد من جانب المستعمرين على قرار الحكومة البريطانية حيث صعد مجموعة منهم على ظهر سفن كانت تحمل صناديق للشاي وقاموا بإفراغها في مياه الميناء فيما عرف بعد ذلك بـ "حفلة الشاي" , وهي الحادثة التي كانت الشرارة لانطلاق حروب الاستقلال في أمريكا.  

واليوم تعد القهوة من أكثر السلع انتشارا حول العالم , يسبقها في ذلك سلعة واحدة فقط هي البترول , وهكذا يعمل البترول على توفير الغذاء للماكينات والآلات , بينما تقوم القهوة بدور الملهم للحواس والمشاعر وتتيح الذهن الرائق للإنسان لكي يبدع ويفكر.
ويبلغ حجم تجارة القهوة نحو 12 مليار دولار في السنة . وتعد الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مستورد للقهوة في العالم إذ تستهلك وحدها سدس الإنتاج العالمي.    

لكن لم تكن مسيرة القهوة وانتشارها في أوروبا مفروشة بالورد , فقد واجهت معارضة شديدة , فالدولة العثمانية حرمتها في عهد السلطان "مراد الرابع" لأسباب سياسية ترتبط بالنشاط الثوري للمعارضين للحكم التركي في أوروبا باعتبارها مشروبا يساعد على اليقظة.

وحتى لا يظن أحد أن البلدان العربية كانت متخلفة حينما كانت تحرم القهوة نقول بأن بلدان أوروبا حرمت أيضا ذلك المشروب لأنه مشروب إسلامي في وقت كان فيه العداء للإسلام قد بلغ مداه في ظل حالة الجهل التام بماهية الإسلام في أوروبا , مثلما حرمت الكنيسة الكاثوليكية في أثيوبيا (موطن القهوة الأول ) مشروب القهوة باعتباره مشروبا إسلاميا , واستمر التحريم حتى وقت قريب (عام 1889 ) , وحرمت الحكومة الألمانية شرب القهوة في عام 1771 لأسباب وطنية واقتصادية باعتبار أن القهوة تستنزف أموال الشعب الألماني وتجعلهم ينصرفون عن صناعة البيرة التي كانت رمزا للهوية الألمانية.

أما في بريطانيا , فقد قرر الملك تشارلز الثاني عام 1675 م إغلاق جميع المقاهي بعد أن تحولت الى ساحات للمناقشات السياسية الساخنة , وبعد 11 يوم فقط تراجع عن قراره , إذ انتقلت المناقشات من المقاهي إلي البارات وصارت المناقشات أكثر خطرا بالخمر. 

من كتابي 

ومضات ابداعية 



ليست هناك تعليقات: