الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

في أي عصر تحب أن تعيش؟





تخيل لو كانت معنا آلة الزمن, تلك الأداة السحرية التي تستطيع أن تنقلنا في ثواني معدودات إلى العصر الذي نريده!
فأي عصر تحب أن تعيش فيه؟!..أراك الآن تصمت قليلا, تجول بخاطرك بين كل أعصر الدنيا, ثم ترسم ابتسامة خفيفة على وجهك, وتقول بشوق حقيقي: أحب أن أعيش في العصر الفلاني.
طبعا, منا من سيختار السفر إلى عصر الحبيب صلي الله عليه وسلم, فمن يحلم أن يراه وينعم بصحبته؟! أو زمان البطل صلاح الدين الأيوبي وكفاحه من أجل القدس..أو زمان المسلمين في الأندلس .. أو حضارة الفراعنة التي أبهرت العالم.. ومن أدرك قاهرة الأربعينات, سيجد قلبه يطير شوقا إليها, فطالما بهرت القلوب بجمالها وهدوئها ونظافتها..تلك بحق هي أيام الزمن الجميل!.

كل منا سيختار الزمان الذي يراه أفضل ما مر على الأرض من طهارة ونقاء أو شجاعة وفروسية أو تحضر وعلم.
لكن.. مهلا - قارئ الحبيب- فالسؤال السابق ليس إلا فخا, يحفي في داخله وسيلة للهروب من الواقع الذي نحياه, وربما كان اعترافا بعجزنا عن تجميل الدنيا التي خلقنا الله من أجل تعميرها, حتى إذا طوي الموت صفحة حياتنا تركناها أجمل مما كانت عليه قبل مجيئنا.

الشيخ محمد الغزالي, وُجه له نفس السؤال: لو خيرت قبل المجئ إلى الدنيا في العصر الذي تختاره لتحيا فيه.. فأي عصر كنت تفضل؟..
كانت إجابة الشيخ بسيطة ومدهشة, فأن إيمانه بربه, وثقته في اختياره يجعلانه لا يختار إلا ما اختاره الله " فأنا راض بهذا العصر الذي شاء ربي إيجادي فيه".
وعلت الدهشة وجه سائله, فقال للغزالي: حسبناك ستطلب الوجود في عصر الصحابة!.
فقال الشيخ: إن الصحابة خيرة القرون وهم سلفنا الصالح, ومع ذلك فإن النبي ود لو يري إخوانه! فقال له الصحابة: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي, وإخواني الذين يجيئون بعدى.. آمنوا بي ولم يروني!..ولهذا فأن الذين يؤمنون بالإسلام ونبيه في هذا العصر ويحافظون على شعائر الدين لهم عند الله مكانة صالحة.. والرجولة الحق تكون باستغلال الواقع المتاح في إدراك منزلة حسنة عند الله سبحانه وتعالي.  

لقد وضع الشيخ بحكمته أيدينا على أساس القضية, "فالرجولة أن نستغل الواقع المتاح لندرك منزلة عند الله", فلا نهرب من حياتنا, إلى عصور قديمة خلت, فقد قدر الله لنا أن نأتي إلى هذا الزمان, والمؤمن الحق هو من وقف في وجه أمواجه العاتيه, لا تهزه, ولا ترهبه, وإنما يطوعها لإصلاح واقعه, ليصبح أنقي وأفضل.. وتلك هي رسالتنا.

وذلك ما فعله المسلمون في الأندلس..فقد كان النصارى هناك يسيطرون على الشمال, حيث الأنهار الضخمة, والمزارع الشاسعة, التي ترعي فيها الماشية الكبيرة والأغنام الوافرة الصوف, والخيول الكبيرة الحجم..  بينما كان نصيب المسلمين, أوسع مساحة, ولكنه الأفقر من حيث الأمطار والمعادن.

لكن المسلمون بجدهم واجتهادهم حولوا الأندلس إلى مساحات شاسعة من بساتين الفاكهة.. لم يتركوا شبرا إلا استصلحوه.. حتى أنهم أجروا المياه إلى الجبال لتصبح مروج زاهرة.. وفي الوقت الذي كانت فيه لندن مجرد قرية صغيرة كانت قرطبة ترسل أشعتها الحضارية لتوقظ أوروبا من سباتها العميق..ويصف الكاتب الأمريكي "ويل ديورانت" حضارتها بأنها "فخر لكل بني الإنسان".

واليوم إذا أردنا التقدم, فلا يجب أن ترسو سفننا عند شواطئ الماضي, بل لابد أن نستلهم منه ما يزودنا لرحلة الحاضر والمستقبل, وبديلا عن البكاء على الأندلس فلنحول بلادنا إلي أندلس جديد, في حضارته, وزراعاته, وصناعاته, وعلومه.  

والحاضر مهما كانت شروره, ومنغصاته, لا يجب أن نرفضه, ولنأخذ بقول الفيلسوف الألماني المتفائل " ليننتز" بأن هذا العالم هو أفضل عالم يحتمل أن يكون موجودا في الكون كله, حتى ولو ساءنا منه ما نراه فيه من بعض صور الظلم والسر, المهم إلا نضعف أمام بعض صور الشر في الحياة.. وان نواصل إيماننا بأن الحياة تحمل في طياتها الخير والشر.. وإذا كنا لا نستطيع أن نختار الزمن الذي نأتي فيه.. فأننا نستطيع على الأقل أن نختار حياتنا الشخصية, وأصدقاءنا وأصحابنا واهتماماتنا.

الكاتب الاسكتلندي "روبرت لويس ستيفنسون" كان يقول بأن هناك يومان لا يجب أن ننشغل بهما.. أحدهما هو الأمس بكل ما حمله من أحداث وأخطاء وآلام ومتاعب.. فالأمس ذهب ولن يعود أبدا..ولو بذلنا كل أموال الدنيا ما استطعنا أن نمحو كلمة واحدة قلناها.. أن نصحح خطأ وقعنا فيه.. لقد ذهب الأمس..فلندعه حيث هو.
وأما اليوم الآخر.. فهو الغد بكل ما يحمل من احتمالات ومفاجآت وأعباء.. أنه أيضا يوم لا نعرف ماذا سيحدث لنا فيه..وماذا سنفعل نحن به..كل ما نعرفه أن الشمس ستشرق معه في الصباح..وربما تكون السماء صافية..وربما تحاول السحب أن تحجب عنا أشعتها الدافئة..
هذا هما اليومان..
بقي بعدهما اليوم الذي نحن فيه.. والساعة التي نحياها.. واللحظة التي تمر بنا..ولابد أن ننعم بكل ساعة..بكل لحظة من لحظات حياتنا في يومنا..لا في أمسنا الذي ذهب..ولا في غدنا الذي لم يأت بعد!.

إشراقة:
إن السعادة الحقيقية هي أن نستغل وجودنا لتحقيق غاية ما، وعندئذ يكون وجودنا هذا عظيماً
جورج برنارد شو

من كتابي // 
الحياة رحلة 

 
 

ليست هناك تعليقات: